حضرتك .. وحضرته
الناس على دين ملوكهم وحكامهم، فهم أصحاب الجلالة والفخامة والسمو أنصاف الآلهة، أو هم يعتبرون أنفسهم آلهة رازقين، فمجلسهم هو البلاط، وحضورهم فيه يسمى بالحضرة الملكية السامية، فالملك لا يخاطب كشخص، بل لذات حضرة جلالته تفخيما وإجلالا، فليس من مكافئ يجرؤ على توجيه الحديث له مباشرة وفى مواجهته، فكان الملوك بذلك يفخمون أنفسهم بأسلوب الغائب فيقولون حضرتنا تقول وحضرتنا تأمر، وعلى غرار عبادة الناس ملوكهم واتباع كِبْر الحكام انتشر خطاب بعضهم بعضا فيقولون حضرتك وحضرته.
لقد أصاب هؤلاء المتجبرون شعوبهم بأوهام العظمة فاختلطت بإحساس الاضطهاد وعدم الشعور بالكفاءة الذى يصاحب العبودية، فالمرء يرى نفسه عظيمة متأثرا بغرور حاكمه، وفى نفس الوقت يراها فى داخله دنيئة غير فاعلة، وأنه عبد مسخر مربوب بالحاكم الإله، فهو مقهور أمام جبروته وقوته، فتتولد عنده عوامل الاستكانة وانكسار النفس، مما يولد الإحساس بالذنب واحتقار الذات، مما يدفع صاحبها للتغطية على تلك الحالة بحب الإطراء لنفسه وللآخرين، فمن باب دناءة نفسه أمام الجبابرة تنسحب رؤيته على الآخرين أيضا فيراهم من العظماء، فهم أمامه ذوو حضرات ونفوذ كما يرى حاكمه فيخاطبهم بـ"حضرتك" و"حضرتها".
كما يستمد المرء المصاب بذلك الإحساس تقديره لذاته من الآخرين، ثم يُصَدِّرْه لهم أيضا، وهو شعور يضع صاحبه على حافة هاوية خطيرة لإسقاط ذاته بمشاعر الإخفاق والانكسار فى مواجهة الآخرين، فهو يرى بذلك ذاته ضعيفة محدودة، لأن التقدير والاحترام له ينبعان من مصدر خارج نفسه ودون تحكمه، مع أن حقيقة الاحترام والتقدير والإحساس بالقيمة ينبغى أن تنبع من داخل النفس وحدها، فالذى يعتمد على الآخرين فى تقييم ذاته قد يفقد يوما تقديرهم الذى يستمد منه قيمة كيانه وذاته، لذا لابد أن ينبعث الشعور بالتقدير من ذات النفس وليس من مصدر خارجى يُمنح لها، فنكون نحن الحضرات المحترمين من داخلنا، فلا نحتاج لإطراء ولا لتفخيم، وكذلك نرى غيرنا كذلك ، فنخاطبهم بأسمائهم دون حاجة لتبجيل ولا تعظيم، فلا تقل من الآن حَضْرِتَك وحضرِتِك .. بل قل .. أنتَ وأنتِ، تكن قوى الهمة.. عزيز النفس!