رئيس التحرير
عصام كامل

ليديا يؤانس تكتب..أنا والسيجارة

ليديا يؤانس
ليديا يؤانس

 ليلة شتاء قارسة البُرودة، ولكن الحلم ساخِن يُذيب الأحاسيس المُتجمدة، يُدغدِغ المشاعر العطشانة للارتواء، فتحت عيوني ونظرت من فتحة صغيرة، صنعتها بيدي، من داخل الأغطية الكثيرة، التي غلفت بها جسدي قبل أن أخلد للنوم.


تذكرت وأنا أتطلع من هذه الفتحة من تحت الأغطية، جهاز الـ"كتوسكوب" الذي كان يُطلق عليه في التراث الشعبي المصري "البيانولا".

كان لاعب أو صاحب البيانولا، يجوب الشوارع وخاصة الأحياء الشعبية، ليُقدم مادة ترفيهية مثل الأفلام السينمائية، للأطفال وأحيانًا الكبار، مُناديًا: "البيانولا.. اتفرج ياسلام!".

كان صاحب البيانولا، يحمل صندوقًا مُستطيلًا، يُسمى «صندوق الدنيا»، مُزينًا برسومات جميلة، به فتحات مستديرة، وكان يضع دكة خشبية، للأطفال يجلسون عليها، ويُغطي رءوسهم بملاءة سوداء، وينظرون في الفتحات الدائرية بصندوق الدنيا، لمُشاهدة الصور التي يعرضها أمامهُم جهاز البيانولا.

نظرت مِنْ هذه الفتحة.. واتفرج يا سلام!

نظرت للتأكُّد من أن ما رأيته في منامي ليس حُلمًا، بل حقيقة، للأسف.. وجدت فراغًا وصمتًا رهيبًا، تجرأتُ وأخرجتُ يدي من تحت الغطاء، أتحسس السرير بجانبي، سحبتُ يدي بسرعة البرق من شدة البرودة، وكأنني أدخلتها في جليد، واتفرج يا سلام على صندوق الدنيا بتاعي، إنه بالحقيقة كان حُلمًا دافئًا رائعًا، وليس حقيقة!

 نفضت الأغطية عن جسدي، جلست نصف جلسة على السرير، مددت يدي لعُلبة السجاير من على الكوميدينو لأسحب سيجارة، أشعلت السيجارة، بدأت أسحب نفسًا عميقًا، وبدأت تتكاثف سُحب الدخان.

مع سُحب الدخان، بدأت تتجسد مُعاناتي وآلامي وحِرماني!

دائمًا أنام بمُفردي، وأستيقظ بمُفردي، ليس هُناك ابتسامة، أو تحية مسائية، أو تحية صباحية تُبهج قلبي!
أغطية السرير دائمًا على جانب واحد من السرير، السرير هبط من جانب واحد فقط، هو مكان نومي أنا، أما النصف الآخر فهو دائمًا فاضي!

أصنع قهوتي بنفسي، أرشف بعض منها مع نفَس من سيجارتي، ليس هُناك من يُشجعني على المُـشاركة في تناول فطوري أو أي وجبة من وجبات اليوم، لا أحد يطهو لي الطعام، ولا أنا أُجيد الطهي، ليس المُشكلة في الطهي، ولكن المشكلة في دفء المُشاركة!

مُعظم الأوقات أتناول وجباتي بالمحال العامة، على الرغم من ذلك ليس هُناك إحساس بالسعادة، لأنك ستجد دائمًا من يحشُر أنفه في حياتك، ويدوس على الجرح، ويُذكِرك بأنك وحيدًا، ويسأل بعدم لياقة، متى سيكون معك النصف الآخر؟

أسحب نفَسًا عميقًا من سيجارتي، أشكو لها من غدر الزمان وما وصل إليه حالي!

 أتشارك مع العائلة أو الأصدقاء أو الأحباب، في لقاءات أو حفلات أو أعياد، يحاولون إظهار اهتمامهم ومحبتهم، ولكن عيونهم دائمًا عليك، لئلا تتجرأ وتسرق ما ليس من حقك، سواء نظرة أو اهتمامًا، الألم يعتصرني، الوحدة تقتلني، أشتاق لِما يحياه الآخرين!

تدخُّل سافر في سؤالهم عن عدم الارتباط، وهل يوجد إنسان طبيعي لا يُريد أن يحيا ويستمتع بالسعادة والاستقرار مثل الآخرين؟ ربما حاولت مِرارًا وتِكرارًا، ولكن لم يُسعدني الحظ بلقاء النصف الآخر!

أسحب نفسًا عميقًا مِن سيجارتي المحبوبة، فهي دائمًا تُشاركني وحدتي، وبدون تدخُل فيما لا يعنيها!

 وتمُر الأيام والسنين على أمل تغيير الحال، ملء النصف الآخر مِن السرير، ملء المقعد المُقابل على المنضدة، ملء المقعد الجانبي في السيارة أو على الأريكة، ولكن يبدو أن تغيير الحال أصبح مِن المُحال، وأستقر هكذا، أنا وسيجارتي وكفي!

 جسدي يتحرق، ويضغط على أعصابي، ويُعكر مزاجي، وفي أوقات كثيرة يُصيبني بالاكتئاب، جسدي يصرخ، روحي تئن بداخلي، أريد تبادُل الضحكات، وتشابُك الأيادي، وتلاقي الأجساد، ومُشاركة الأفكار، وتبادُل الآراء، والحلم المُشترك، ناهيك عن بعض العلاقات العابرة، ثم أستغفر الله مع طلب تغيير الحال بالحلال، ولكن يبدو أن ذلك أصبح أمرًا مُستعصيًا!

 أصبحت الوحدة من نصيبي، ولكن سيجارتي لم تتخلَّ عني، مع سُحب دخانها، أبكي وأضحك وأتخيل وأحلم أحلامًا وهمية قد تُسعدني بعض الوقت لأنسى الواقع المرير، وتبقى سيجارتي رفيقة وحدتي بلا مُنافس!

 في يوم قرروا الاحتفال بي، استغربت واندهشت، إنها حفلة في مكان عملي، كل الزملاء في العمل والمُديرين، كيكة كبيرة جدًا، مكتوب عليها اسمي، وعبارات شُكر رقيقة على انتهاء فترة خدمتي بالعمل، لقد وصلت إلى سن المعاش!

 وكأنني خرجت من كهف التاريخ لأصطدم بمرور سنوات عُمري، وكأنني مررت على الدنيا فقط، لأشاهد حياة الآخرين، بدون أن أعيش حياتي، أو حتى أشاركهم الحياة!

 أشعلت سيجارتي لتُشاركني أحاسيسي ومشاعري كالعادة، ابتسمت لي سُحب الدخان، ليس للسخرية من حظي العثر، ولكن لكي تُشاركني ما يعتمل في صدري من ضيق، وما يدور في ذهني من أفكار!

 كل الزُملاء يضحكون، يُهنِئون، يأكلون الكيك، ويقولون لي، إن أجمل عُمر للإنسان هو بعد الخروج على المعاش، لكي يتفرغ للاستمتاع بالحياة، يستمتع بالسياحة والتفرُغ لتحقيق ما لم يقدر أن يُحققة في أثناء عمله.

 ابتسمت إبتسامة السُخرية من خلال دُخان سيجارتي، ولسان حالي يقول، إنني لم أستمتع ولم أعِش حياتي قبل المعاش، فهل سيكون هناك فُرصة بعد المعاش؟!

وضعت مفتاح السيارة في الكونتاكت، وفي اليد الأخرى السيجارة، إلى أن وصلت كورنيش النيل، ركنت السيارة، وانحنيت بكُل جسدي على السور، وكأنني أرفع الحِمْل مِن فوق كتفي لألقي به في ماء النهر ليحمله مع أمواجه بعيدًا عني، لأتخفف من أثقالي وأتعابي، ثم اعتدلت في وقفتي أسترجع شريط حياتي، وخاصة حفلة نهاية الخدمة، لأول مرة أجد الأصدقاء من حولي سُعداء بأن هذا هو آخر يوم لي معهُم في العمل، كُنت أتمنى أن ألمح في عيونهم أنهم سوف يفتقدوني في وسطهم!

 الساعة الآن تقترب من الواحدة صباحًا، سيجارتي لم تستطع أن تحمل معي هذا الحمل الثقيل، ذهبت إلى محل قهوة يُطل على النيل، الوقت مُتأخر، ولا يوجد أحد مِن الأصدقاء الذين تعودت السهر معهُم، طلبت كوب شاي وشيشة.

 ركنت علبة السجائر في جيب القميص، وبدأت أشد أنفاسًا كثيرة مُتتالية مِن الشيشة، إلى أن امتلأ المحل كُله بِسحُب الدُخان، وكأنني أريد أن أهرب وأتلاشى، كما تتلاشى وتضمحل سُحب الدُخان.

 ذهبت إلى المنزل أجر قدمي، وأشعر بثقل شديد على قلبي، حاولت الاسترخاء على السرير، وأنا أنفُث دخان سيجارتي، وأتفرج على الصور التي التقطوها لي في أثناء حفل نهاية الخدمة، لأول مرة ألاحظ أن مُعظم شعري قد ضربه الشيب، حزنت جِدًا، بدأت أكتئب، ولأول مرة بدأت أزعل من سيجارتي، لماذا كانت دائِمًا تأخُذني في سُحب دُخانها، وحجبت عني المرآة فلم ألحظ ما وصلت إليه حالتي!

 بدأت دقات قلبي تتزايد، لدرجة أنني أحسست بِها تدُق أم رأسي، تنفُسي أصبح ثقيلًا جِدًا، ضغطُت على السيجارة في الطفاية لأطفئها، اتصلت بإخوتي أو أصدقائي لكي يأتون لمُساعدتي أو إنقاذي، ولكن الأعذار بدأت تقطع كُل المُحاولات عن تقديم المُساعدة!

بدأت الدموع تنهمر غزيرًا من عيني، ومعها الحسرة على حرماني مِنْ ابن أو ابنة، يقولون لي: "يا بابا" أو زوجة تُقدم لي لمسات الحُب والحنان في مثل هذه الظروف.. وطلبت رقم الإسعاف!
Advertisements
الجريدة الرسمية