في ذكرى وفاة طلعت حرب.. أبرز الأزمات في مسيرة رائد الاقتصاد المصري.. الاستعماران «البريطاني والتركي» حاولا إجهاض حلمه.. «غيرة سعد زغلول» من زعامته الاقتصادية.. و«عبود باشا
رائد من رواد الاقتصاد المصري عُرف بـ« أبو الاقتصاد»، وقع على عاتقه مسئولية تمصيره، رجل أعمال بدرجة مفكر، آمن بأن استقلال مصر يتحقق بمداخن المصانع قبل فوهات المدافع، وأن أولى خطوات التنوير في بلد ما تبدأ بالثقافة والفنون، انحاز لأوجاع الفلاح وتطلعاته بعيد عن جشع المرابين.. إنه محمد طلعت حرب، مؤسس الاقتصاد الوطني في مصر، وقائد قطار تمصير مؤسساتها، الذي ولد عام 1876 في رحاب مسجد الحسين بحب الجمالية، عمل في بداية حياته مترجمًا في السلك القضائي، وتدرج في وظيفته حتى وصل إلى منصب مدير لقلم القضايا، كما كان مديرًا لمكتب المنازعات خلفا لمحمد فريد، في عام 1905 إدارة الشركة العقارية المصرية التي عمل على توطينها حتى أصبحت غالبية أسهمها في يد المصريين ومن هنا بدأ حلمه نحو تمصير المؤسسات، وفي ذكرى وفاته نرصد أبرز الأزمات في مسيرته.
العقبات
لم يكن «حرب» رجل أعمالٍ أنانيا، وإنما كان اقتصاديًا وطنيًا ذا رؤية، يتضاعف قدره وقيمته إذا عايشنا الزمان والمناخ الذي بدأ فيه تحقيق حلمه ومعجزته بالمصريين ولهم، وكانت مصر في بداية القرن العشرين تحت احتلالين في آنٍ واحدٍ، إنجليزى فعلى وعثمانى رسمى، وكانت البنوك الأجنبية تسيطر على اقتصاد مصر بالكامل، حتى إن الحكومة المصرية أودعت أموالها بالبنك الأهلي، وقد كان أجنبيًا آنذاك، مع علمها بأن البنك يرسل هذه الأموال للخارج.
إنجازات طلعت حرب
لم يقف وجود الاحتلال وتأمر الإقطاعيين حائل أمام الاقتصادي الوطني، بل قاد قطار التمصير بإنشاء أول بنك مصري خالص "بنك مصر" انتصر للفلاح في مواجهة المرابين الأجانب واليهود، وبعد عامين من إنشاء طلعت حرب أول مطبعة مصرية، تتوالى الشركات المصرية التي ينشئها البنك مثل شركة مصر للنقل البري وشركة مصر للنقل النهري، وشركة مصر للطيران مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، مصنع حلج القطن في بني سويف، وكذلك مصر للسياحة وغيرها من الشركات والمصانع العملاقة ذات الصبغة المصرية الخالصة.
شغفه بالثقافة والفنون
آمن طلعت حرب أن الثقافة والفن استثمار كبير فهو القائل "إن السينما صرح عصري للتعليم، لا غنى لمصر عن استخدامه في إرشاد سَوَاد الناس"، فأنشأ شركة ترقية التمثيل العربى وأقام لها مسرح الأزبكية -المسرح القومى حاليًا-، كما أسس ستوديو مصر كأكبر مصنع للسنيما المصرية التي انتقلت للعالمية لآنذاك.
محاولات إجهاد المشوع الوطني
لم تكن تجربة أبو الاقتصاد نحو بناء إنشاء مؤسسات وطنية بالأمر اليسر، فاختلف معه الرفقاء وأطاح بتجربته الأعداء، فمع تأسيس البنك وقع انشقاق حول البنك بين رؤية محافظة ترى ضرورة تحقيق الاستقلال الاقتصادي أولا، ورؤية أكثر راديكالية تؤكد على ضرورة إنهاء الاحتلال البريطاني فورًا، وكان ينظر إلى طلعت حرب والأحرار الدستوريين على أنهم من أصحاب الاتجاه الأول، في حين تزعم سعد زغلول والعناصر المسلحة من حزب الوفد الاتجاه الثاني.
غيرة سعد زعلول
ويرجع كتاب "طلعت حرب وتحدي الاستعمار.. دور بنك مصر في التصنيع 1920 - 1941" للكاتب إيريك دايفز، أن السبب وراء الخلاف إلى عامل شخصي، وهي غيرة سعد زغلول من الزعامة الاقتصادية لطلعت حرب الموازية لزعامته، كما يفسر دايفز الأمر من وجهة ثالثة ويحيله إلى وجهة نظر طبقية، إذ يشكل الأحرار الدستوريون -معسكر طلعت حرب- الطبقة العليا من طبقة الأتراك المصريين بعكس الوفد الذي ضم ملاكًا أقل ثراء.
الانتهازيون يطيحون بحرب
عقب الحرب العالمية الثانية، حاول عدد من رجال الأعمال الجديد الذين كونوا ثروات طارئة من وراء الحرب، وبطرق ملتوية وعلى رأسهم أحمد عبود باشا، الإطاحة بالحلم الوطني، إذ اشترك عبود وفرغلي باشا ملك القطن في مصر حينها، في تنفيذ سياسة قوامها سحب ودائعهما من بنك مصر بمعدل نصف مليون جنيه يوميًا حتى بلغ السحب ثلاثة ملايين جنيه، كما هددت الحكومة التي يترأسها حسين سري -صديق عبود باشا- بسحب ودائع الحكومة، فاضطر طلعت حرب في 14 سبتمبر 1939 للاستقالة حتى لا يهتز مركز البنك وترك إدارته لحافظ عفيفي طبيب الأطفال، وهو كان صديق للإنجليز ولعبود.
انعزل الاقتصادي الكبير بعد الاستقالة عن العالم وابتعد عن المشهد برمته، وقرر أن يستكمل ما تبقى من حياته بعيدًا عن صخب العاصمة، واختار لنفسه بيتًا في مدينة فارسكور بمحافظة دمياط الساحلية، وعكف على كتابة عدد من مؤلفاته أشهرها مصر وقناة السويس وتاريخ دول العرب والإسلام، حتى وافته المنية في مثل هذا اليوم عام 1941م.