رئيس التحرير
عصام كامل

حذف جزء من الذاكرة..مرض مصري عريق!


الذاكرة إما شخصية أو وطنية. ذاكرة خاصة بالفرد وذاكرة خاصة بالجماعة أو بالوطن. ذاكرة الفرد تتعرض لعوامل عديدة عبر الزمن، تنحسر خلالها القدرة على التخزين، والقدرة على الاستدعاء. ربما يفيد العلاج بالتأهيل وبالدواء، وربما يفقد المرء ذاكرته، وتحل محلها اللا ذاكرة، ويسود ألزهايمر، ردة عقلية طفولية!


الذاكرة الوطنية هي مجموع ذاكرات النابهين الدارسين العارفين بخط سير الوطن عبر الأحداث الكبرى والصغرى، مشكلاته وحروبه، انتصاراته وانتكاساته، الأبطال المنتصرون والأبطال المهزومون، الرؤساء والملوك والأمراء، العظيم منهم والحقير، الوطنى والعميل، المخلص والإرهابي. أيا كان، وما جريرته، وما إنجازه. هؤلاء هم المؤرخون، قيضهم الله ليسجلوا سيرة حياة الوطن عبر شتى العصور، من الكتابة على الحجر والجدران إلى الكتابة على البردى، إلى الكتابة على الورق، إلى التاريخ بالصورة والحركة والصوت، فيما يعرف بالجرائد السينمائية المصورة، وحاليا الأفلام الوثائقية الحية وقت المعارك والإنجازات، أو المسجلة بعدها.

الجريدة السينمائية المصورة كانت من إنتاج مصلحة الاستعلامات أيام عبد الناصر، وكانت تؤرخ لقرارات وتحركات وخطب الزعيم وقتها، وكنا نشاهدها ونحن صبية تتصدر الأفلام في دور العرض وتلتهب أكفنا الصغيرة تصفيقا من فرحتنا برؤية الزعيم ناصر عملاقا يملأ الشاشة والقلوب.

وكنا نلاحظ، مع بدء عرض الفيلم العربي، لإسماعيل ياسين أو زكي رستم أو أنور وجدي، كل أفلام الأربعينيات والخمسينيات، ظهور شخبطة بيضاء متراقصة في مشاهد معينة من لقطة فيها صورة داخل برواز، وقد اختفت ملامحها تقريبا وراء هذه الشخبطة. قال لنا آباؤنا إنها كانت للملك فاروق!

هكذا عرف جيلنا أول حذف للتاريخ، ولكن للحقيقة لم يحذف تاريخ فاروق ولا أسرته، بل شوهت تشويها وزورت تزويرا، لصالح بناء جيل جديد موال لثورة ٢٣ يوليو، وهو الجيل الذي انتمي إليه، لكنى للأسف لست من دروايش الزعيم الوطنى جمال عبد الناصر، إذ سرعان ما أدركت مع تعدد وتعمق القراءات والمراجعات أن كتب وزارة التربية والتعليم علمتنا أن الأحزاب رجس من عمل الشيطان، وأن الحياة الحزبية مفسدة وفرقة، وأن جمال عبد الناصر هو أول رئيس لمصر، ولم أعلم، ولا جيلي علم أن اللواء محمد نجيب كان هو الرئيس الأول إلا بعد رحيل البكباشي ناصر!

ولما بشر السادات بظهور المنابر تمهيدا لميلاد الأحزاب، بعد وفاة ناصر، وقف عقلي غير مستوعب وذهلت أن كيف ولماذا يعيد السادات الأحزاب التي تفسد الحياة السياسية، وكنا تنظيما واحدا وحزبا واحدا هو الاتحاد الاشتراكي الذي يضم تحالف قوى الشعب العاملة ؟!

صدمة مروعة الحقيقة، تفهمناها مع الوقت ومع إصرار السادات على إعادة الحياة الديمقراطية وإطلاق حرية التعبير.

واليوم وبعد ٦٤ سنة من تزوير تاريخ مصر، يعود موظفون، على رأسهم وزير متخبط، لايقدر على إدارة وزارته، بوزارة التربية والتزييف، إلى ذات العادة اللئيمة، بقرار يقضي بحذف تاريخ مصر في حقبة مبارك، وتاريخ الرجل، الوطنى المشرف في كل حروب مصر، جنديا وقائدا. مهما كانت الآراء في حسنى مبارك، فاسدا أو غير فاسد، بضاعة تجار يناير الرائجة، لكن الحقيقة أنه خدم وطنه بإخلاص وحارب من أجله ولم يفرط فيه، ولم يعند في التخلي عن السلطة، مما جنب مصر حربا مأجورة !

لقد ركزت صفحات كتاب" تاريخ مصر والعرب الحديث"، للسنة الثالثة الثانوية على أن أبطال الحرب هم السادات، وهذا طبيعى، والمشير أحمد إسماعيل، وهذا حقه، والفريق الجمسي، طبيعى جدا، والفريق رئيس الأركان سعد الدين الشاذلى، وهذا أيضا حقه. أين قائد سلاح الطيران ومعلم الطيارين ؟! أخفوه عمدا، والحق أنهم لم يطمسوا حسني مبارك، بل طمسوا جزءا من ذاكرة الوطن في ذاكرة المواطن. سيكبر بعدها الطالب وسيعرف الحقيقة وهي أن من علموه كذبوا عليه، وزورا الحقائق. لم يحجبوا تاريخ الرجل فحسب بل زوروا وقائع الخامس والعشرين من يناير الأسود، وسردوا للطلاب أن الرجل استعطف الثوار ليبقى متشبثا بالسلطة، وأنه ماطل وتردد، وهذا للحق غير حقيقي، فقد استجاب لما يسمى بالثوار، واعتبر مطالب الشباب والشعب مشروعة، وحدد ستة أشهر لتسليم السلطة حتى لا تقع الفوضي.

ولقد وقعت.. ومازلنا فيها نتعثر، بفضل أغبياء، لايزال قطيع منهم يزور التاريخ في وزارة السداح مداح المسماة بالتربية وتعليم الكذب !
لا يمكن أن تكذب على الناس طول الوقت أيها المزور الأكبر.

الجريدة الرسمية