في البنك الزراعي.. الرئيس وبطانة السوء (1)
قامت الدولة بإنشاء بنك التسليف الزراعي المصري بموجب المرسوم بقانون رقم 50 لسنة 1930 برأسمال مليون جنيه والمرسوم الملكي بنك التسليف الزراعي المصري عام 1931، أثناء الأزمة الاقتصادية العالمية ليقدم القروض للمزارعين المصريين ليحميهم من البنوك العقارية الأجنبية والمرابين.
في عام 1976 صدر القانون رقم 117 بتعديل اسمه إلى "البنك الرئيسي للتنمية والائتمان الزراعي"، على أن تكون مهمته تقديم الدعم والتمويل اللازم للمزارعين لجميع أنواع المحاصيل الزراعية، وجميع الأنشطة المتعلقة بالزراعة، كذلك تقديم كافة الخدمات المصرفية، وتمويل (المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة)، وتمويل الالتزامات المرتبطة بالعملية التعليمية، والالتزامات المرتبطة بالزواج، وشراء السلع المعمرة، وبصفة خاصة في الريف.
يمتلك بنك التنمية والائتمان الزراعي أكثر من 1210 فروع وبنوك قرى تغطى كافة أنحاء مصر، بالإضافة لامتلاكه أكثر من 4،4 مليون متر مربع سعات تخزينية، مخصص منها مساحة 2 مليون متر مربع لاستلام الأقماح المحلية من المزارعين، ويبلغ عدد الشون 392 لدى البنك.
للأسف البالغ، رغم تلك الإمكانيات الهائلة، لم يقدم البنك، منذ إنشائه، شيئا يذكر للمزارعين.. فهو يرتبط لديهم بذكريات أليمة للفساد والفوائد الشائنة، والجباية الظالمة.. بفعل المسئولين المتهمين دوما باستغلال أمية وجهل المقترضين والمتعاملين اضطرارا مع البنك، في مضاعفة الديون، مع وضع الزيادة الرهيبة في حساباتهم، بعد اقتسامها مع رؤسائهم.. تنطق بذلك ثورات الفلاحين في العديد من القرى والنجوع ضد أحكام الحبس التي تصدرها العدالة العمياء بحق المزارعين الغلابة الذين أُخذت بصماتهم على أوراق بأضعاف ما تسلموه من قروض، عمدا ومع سبق الإصرار.
ولعل قضية الفساد الكبرى التي سجن بسببها الدكتور يوسف عبدالرحمن، رئيس مجلس إدارة البنك، وطفل يوسف والي المدلل، تؤكد صدق ما نقول.. خاصة أن سيطرة وزارة الزراعة على البنك كانت ذات آثار سلبية حمل مرارتها صغار العاملين، والمزارعون الذين يمثلون مجال عمل البنك، وجمهور المتعاملين معه.
الموظفون أيضا يتعرض الكثيرون منهم لظلم بيّن، والكارثة أن لا أحد يستمع إليهم، على مدى التاريخ الطويل للبنك، وعمره المديد الذي يقارب القرن من الزمان، وتعبيرا عن أوجاع العاملين ببنوك القرى، يقول أحدهم: "منذ فترة سمعت كلمة من عويضة (يقصد عويضة فؤاد، أحد رؤساء مجالس الإدارة قبل ثورة يناير)، وهذه الكلمة ترن دائمًا في أذني، وكنت في ذلك الوقت في البنك الرئيسي قبل أن أطلب نقلي لفرع العاصمة الإسلامي، قال: "إحنا بناكل من عرق بنوك القرى".. وحتى الآن لم أنس هذه الكلمة".. فضلا عن تلفيق القضايا للمعارضين، وأمتلك أكثر من دليل حي!
الكيل بأكثر من مكيال هو مبدأ اعتاده من لا يجيدون النفاق والمداهنة في ذلك البنك.. فمصيرهم دوما الاستبعاد من فرق المحظوظين، والحرمان من الأضواء تحت راية كتائب رفقاء الرؤساء، الذين يحصلون على أعلى الدرجات الوظيفية في فترات قياسية، ودونما استحقاق، أو شروط لشغل تلك الوظائف.. مسئول أمن يصير رئيسا لقطاع.. سكرتيرة تصبح "مدير عام".. موظف لم يحصل سوى على الدبلوم ينال ترقيات أفضل من الحاصلين على الدكتوراة!!
التعيين في البنك كانت له تسعيرة محددة.. مع تجاهل نوعية المؤهل، وحاجة المكان.. وفي فترة مظلمة من عمر البنك كان هناك قائم بالأعمال يدير شئون البنك، وهي فترة شهدت تكالبا في التعيينات، ولو أرادت الرقابة الإدارية الكشف عن "التجاوزات" التي حدثت، وما زالت تحدث، في البنك، لما وجدت عناء كبيرا.
عدد من الموظفين اتخذوا مواقعهم في البنك قنطرة للوصول إلى كرسي البرلمان.. فصاروا "موظفين بحصانة".
أحد رؤساء مجلس الإدارة السابقين جاهد للحصول على حقيبة وزارية، وبذل الغالي والنفيس من أجل نيل تلك الأمنية الثمينة، وناشد رئيس الحكومة وقتها، أن يحقق له مناه، وأبدى استعداده لفعل أي شيء.. عارضا التنازل عن مديونية البنك لدى الحكومة، والتي تجاوزت 3 مليارات جنيه، وتقديم مبنى البنك بالتحرير كفندق لنواب البرلمان، إلا أن رئيس الحكومة أجابه بأن لديه مقعد المحافظ بإحدى محافظات الصعيد.. و"حسبها" الرجل بسرعة.. إنه يتقاضى مليون جنيه شهريا كرئيس للبنك، ويريد الخروج من منصبه إلى مقعد الوزارة، وفي الوقت نفسه لا يرغب في إضاعة فرصة منصب المحافظ.. فما كان منه إلا أن طلب من رئيس الوزراء تعيين نجل شقيقه، محافظا، على أمل خلو "الكرسي الوزاري" في الحكومة القادمة، إلا أن ثورة الموظفين ضده كانت أسرع وأقوى.. وتمكن الثوار من إزاحته.. رغم محاولات "نائبة" لدعمه، وحصلت مقابل محاولاتها تلك على ترقية كبيرة لا تستحقها!
بنك التنمية والائتمان الزراعي، يزيد عدد العاملين به عن 20 ألفا، ومع تكرار تصريحات المسئولين به عن تضخم العمالة به، إلا أن أحد رؤساء مجالس الإدارة السابقين ابتكر بابا خلفيا لمزيد من التعيينات للمحاسيب والمحظوظين، أي أفلح في فتح "طاقة" جديدة للفساد، حيث تم إنشاء شركة تابعة للبنك، أسموها "الشركة المصرية للتنمية الزراعية"، وبالطبع تم فتح باب التعيينات بالشركة الوليدة، وكان الأفضل انتداب عدد من العاملين بالبنك للعمل بالشركة، بدلا من تعيين أشخاص جدد يمثلون عبئًا جديدًا على الميزانية الخاصة بالبنك، خاصة أنه يعاني من خسائر مالية مرحلة تصل لنحو 4 مليارات جنيه.
ونكمل في مقال قادم بإذن الله...