أحكام الشريعة ومقاصدها (2)
في كتابه (الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية)، يشير الريسونى إلى أن كل ما في القرآن - والسنة كذلك - متضمن إما جلب مصلحة أو مصالح، ودفع مفسدة أو مفاسد، كلية أو جزئية، مباشرة أو غير مباشرة.. والمصلحة في الاصطلاح الشرعى هي كل ما يعود على الإنسان فردا أو جماعة بخير ونفع وصلاح وسعادة -مادة وروحا- في حاضره ومستقبله.. وقد قسمت المصالح إلى ضرورية(لا يستطيع الإنسان الاستغناء عنها)، وحاجية (يحتاج اليها لاستقامة الحياة والتوسعة فيها)، وتحسينية(تضفى على القسمين السابقين حسنا وكمالا).. وقد اتفق العلماء على أن أمهات المصالح التي تدور الأحكام الشرعية على حفظها ورعايتها هي ما اشتهر بالضروريات الخمس، أو الكليات الخمس، أو الأصول الخمسة، وهى الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال؛ ومنهم من يضع العقل قبل النسل.. وقد أجمعت الملل والشرائع على تعظيم هذه الضروريات وحفظها واعتبارها مصالح عليا للجنس البشرى وللحياة الإنسانية.. ولأن الوطن هو الوعاء الحاوى لهذه الضروريات، فإن المحافظة عليه تعتبر من أعظم وأجل الضروريات.. لذا أقول لماذا لا تكون الضروريات ستا، بدلا من خمس؟
وقد انتهينا في المقال السابق، إلى أن هناك ما يطلق عليه "القواعد الكلية لتحقيق المقاصد"؛ مثل قاعدة "رفع الحرج"، وقاعدة "جلب المصالح ودرء المفاسد"، وقاعدة "اللجوء إلى رحاب الكليات والأحكام العامة"، وهكذا.. وتمتد قاعدة "رفع الحرج" لتشمل كافة أبواب الشريعة، وفروعها، وأحكامها، وآدابها العامة والخاصة، بل تمتد حتى إلى المجال العقدى.. تأمل قوله تعالى: "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان"(النحل: ١٠٦)، حيث يجوز دفع الضرر الفادح عن النفس بالخروج الظاهرى عن مقتضى الإيمان.
وتعنى قاعدة"جلب المصالح ودرء المفاسد"، كما عبر عنها ابن تيمية (مجموع الفتاوى): "تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها".. وفيما يتعلق بقاعدة "اللجوء إلى رحاب الكليات والأحكام العامة"، يرى الشافعى جواز التمسك بالمصالح المستندة إلى كليات الشرع، ولو لم تشهد لها أدلة جزئية خاصة..فعن عمرو بن العاص (رض) أنه قال: "احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت أن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابى الصبح، فذكروا ذلك لرسول الله (ص)، فقال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعنى من الاغتسال، وقلت: إنى سمعت الله عز وجل يقول (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) (النساء: ٢٩)، فضحك النبى (ص) ولم يقل شيئا".(رواه أبوداود في سننه)..ومن المعلوم أن رخصة التيمم الواردة في القرآن نصت على حالة عدم وجود الماء، وحالة المرض القائم، وليس فيها التيمم بسبب شدة البرد، خوفا من ضرر متوقع، لذا لم يعول عمرو على الدليل الجزئي، وإنما لجأ إلى الدليل الكلى..
وفى حادثة أخرى، عن جابر (رض) قال: "خرجنا في سفر، فأصاب رجلا منا حجر، فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسال أصحابه: هل تجدون لى رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات". يقول جابر: "فلما قدمنا على النبى (ص) أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العى السؤال. إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه بخرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده". (السنن الكبرى للبيهقى).