رئيس التحرير
عصام كامل

صندوق الفقر الدولي


منذ انتهاء الاستعمار العسكري التقليدى في منتصف القرن العشرين على يد حركات التحرر الوطنى في دول العالم الثالث، والدول والإمبراطوريات الاستعمارية القديمة والحديثة تحاول البحث عن آليات استعمارية جديدة وغير تقليدية، وقد تفتق ذهن الغزاة إلى استحداث آلية استعمارية اقتصادية جديدة وغير مباشرة، وقد تمثلت هذه الآلية في صندوق النقد والبنك الدوليين وهما بديل لصندوق الدين المعروف في ظل الإمبراطوريتين الاستعماريتين الإنجليزية والفرنسية في القرن التاسع عشر، ولمصر تجربة مريرة مع الصندوق القديم حين استدان منه الخديو إسماعيل وكان بداية للتدخل الأجنبي في شئون مصر مهد للغزو والاحتلال البريطانى في عام 1882.


ثم كانت لنا تجربة أخرى مع البنك الدولى الأداة الاستعمارية الجديدة مع بداية ثورة 23 يوليو 1952، حين أراد الزعيم جمال عبد الناصر بناء السد العالى، ولم تكن هناك في خزانة الدولة المصرية أموال تسمح بتمويل عملية البناء، وكان المطلوب في حينه 200 مليون دولار، فلجأ عبد الناصر للبنك الدولى، الذي بدأ على الفور في فرض شروطه على عبد الناصر ومصر، وكانت النتيجة رفض جمال عبد الناصر شروط البنك الدولى، وقام بفضحهم وكشفهم كأداة استعمارية جديدة حيث قال:

"نطلب من البنك الدولى أن يوقع معنا الاتفاق النهائي لبناء السد العالى، عشان يدينا 200 مليون دولار، فيفرض البنك شروطه، ونكون أمام حاجة من الاثنين، إما نرفض هذه الشروط فيقول مفيش قرض، أو نضطر للخضوع والاستسلام لشروط البنك الدولى فيبعت واحد يقعد مطرح وزير المالية، ويبعت واحد يقعد مطرح وزير التجارة، ويبعت واحد يقعد مطرحى، وإحنا نبقى قاعدين في هذا البلد ما نعملش حاجة إلا أما ناخد منهم التعليمات وناخد منهم الأوامر".

هذا هو نص كلام جمال عبد الناصر عن تجربته مع البنك الدولى الأداة الاستعمارية الجديدة التي استحدثتها الإمبريالية العالمية بعد نجاح مجتمعات العالم الثالث من تحقيق التحرر الوطنى، وكان رد جمال قاطعًا لن نخضع ولن نستسلم ولن نفرط في استقلالنا الوطنى تحت أي ضغط، وقد كان وبالفعل نجح في بناء السد العالي بعيدًا عن البنك الدولى وبعيدًا عن الاستعمار الجديد.

ومع مطلع تسعينيات القرن العشرين وبعد عشر سنوات من حكم مبارك، وبعد ما يقرب من عقد ونصف من تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادى المزعومة التي فرضتها الإمبراطورية الاستعمارية الجديدة المعروفة باسم الولايات المتحدة الأمريكية على السادات الذي صدر لنا مقولته الشهيرة إن 99% من أوراق اللعبة في يد الأمريكان ومنذ ذلك التاريخ والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للغالبية العظمى من المصريين في تدهور وانهيار، والاقتصاد المصرى يتعرض لهزات كبيرة، وفى إطار سعي مبارك للبحث عن حل للمشكلة الاقتصادية المتفاقمة وفى ظل ما أطلق عليه الإصلاح الاقتصادى، والتكيف الهيكلى، وجدنا الأداة الاستعمارية المعروفة بصندوق النقد الدولى تفرض وجودها وإرادتها وشروطها على مبارك وحكومته وما رفضه عبد الناصر قبله حسنى مبارك، حيث تم بيع القطاع العام، وفرض ضرائب متعددة على المواطن المصري الفقير، وتم تعويم الجنيه حيث انخفضت قيمته عدة مرات أمام الدولار، وكانت نتيجة تنفيذ مبارك لروشتة الإصلاح الاقتصادى المفروضة من الصندوق هو مزيد من الديون، ومزيد من المعاناة لجموع المصريين، ومزيد من الفقر، لذلك أطلقت عليه صندوق الفقر الدولى.

ونتيجة المعاناة الاقتصادية والاجتماعية للغالبية العظمى من المصريين خرجوا ثائرين على مبارك وحكومته ونظامه في 25 يناير، وانتظر المصريون تغيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية، لكننا وجدنا محمد مرسي وجماعته يلجئون إلى الصندوق ذاته الذي أحدث الفقر وعمقه داخل المجتمع المصرى، وثار المصريون على مرسي وجماعته وصندوق الفقر الدولى في 30 يونيو، وعاد المصريون من جديد ينتظرون تغيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية لكن الحكومة الحالية صدمتهم من جديد حين لجأت إلى الصندوق لطلب قرض جديد مقداره 12 مليار دولار على ثلاث دفعات خلال ثلاثة أعوام، وكالعادة فرض الصندوق شروطه، وهى رفع الدعم، وفرض ضرائب جديدة، وبيع ما تبقى من القطاع العام، وتعويم جديد للجنيه المصرى، وهو ما يعنى تعميق جراح الفقراء والكادحين.

وعلى الرغم من أن طلب القرض كان يوم 26 يوليو فإن المفاوضات قد بدأت قبل ثلاثة شهور، وبالفعل بدأت الحكومة في تنفيذ أوامر صندوق الفقر الدولى الأداة الاستعمارية الأمريكية الجديدة، والسؤال المطروح الآن على هذه الحكومة مسلوبة الإرادة، ماذا ستفعل الـــ 12 مليار دولار التي تطلبوها من صندوق الفقر الدولى؟

لقد قامت الحكومة بتبديد 20 مليار دولار دخلت خلال العامين الماضيين، ورغم ذلك لم يتوقف نزيف الاحتياطي النقدى، لقد وصل حجم الدين الخارجى 60 مليار دولار والدين الداخلى يقترب من ثلاثة تريليونات جنيه، وخدمة الدين أي فوائده تقدر بثلث الموازنة العامة للدولة ما يقرب من 300 مليار جنيه، الوضع برمته ووفقًا للسياسات التي تنتهجها الحكومة الراهنة ينذر بانفجار جديد في صورة ثورة جياع، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
الجريدة الرسمية