عندما كنا نغني للقمح !
"القمح الليلة ليلة عيده.. يارب يبارك ويزيده".. هكذا كنا نغنى للقمح أيام حصاده.. وكانت كل طموحات وأحلام الفلاح مؤجلة حتى يتم حصاد المحصول.. الولد يتجوز بعد بيع المحصول، والبنت (تتشور) من إيراد المحصول، والزوجة (تتصيغ) بعد المحصول.. مصر كلها كانت بتفرح.. محصول الخيـــر تنتجه الأرض الطيبة، وأهل الأرض الطيبة يأكلون منه، ومن يأكل من ضربة فأسه وعرق جبينه وخير أرضه يظل مرفوع الرأس مستقل القرار والإرادة.. كنا ندعو الله أن يبارك في المحصول ويزيده !
الآن البركة خطفها الغراب وطار.. والغراب ليس فقط موظف الشونة المرتشي، ولا موظف الصومعة معدوم الضمير، ولا صاحب الصومعة الذي يستبيح المال العام، ولا رئيس مجلس إدارة شركة الصوامع الذي يهدر المال العام في التعاقد مع شون وصوامع غير مطابقة للمواصفات، ولا الوزير المسئول عن منظومة القمح والخبز التي لا نعرف إن كانت أوقفت إهدار المال العام أم زادته، ولا نعرف إن كانت أوقفت تهريب الدقيق أم أوجدت سبيلا آخر في الكروت الذكية لتعويض ما كان يتم سرقته من الدقيق في المخابز.. ولا رجل الأعمال المستورد للقمح الذي يجلس رئيسا أو وكيلا في الغرف التجارية في صورة جلية لتضارب المصالح!
الغراب هو الفساد الذي استشرى في أماكن كثيرة، وهو المعول الذي يضرب كل نجاح في مقتل، وهو السوس الذي ينخر في عظام ومفاصل وزارات بعينها مسئولة عن غذاء المصريين.. الغراب هو هذا الفجر (بضم الفاء) في سرقة المال العام والدعم المخصص من الدولة لرغيف الخبز وللفلاح الذي يزرع القمح، وهذا التبجح في عدم الخوف من القانون !
الفساد تحول إلى منظومة نشطة ومتطورة الأساليب وقادرة على هزيمة كل التكنولوجيا وتعطيلها والالتفاف عليها تحت سمع وبصر ورعاية مسئولين كبار.. منظومة الفساد تقاوم وبكل قوة واستماتة أي محاولة للإصلاح وأي وسيلة للرقابة.. منظومة الفساد ترفع شعار (عض قلبي.. ولا تعض رغيفي) و(يا واخد قوتي.. يا ناوي على موتي) لذلك فالمعركة معها صعبة وقاسية وتحتاج حسمًا وبترًا لا هوادة فيهما.
أفراح الحصاد والتوريد تحولت إلى سباق في سرقة المال وابتكار في عمليات الاختلاس ومناورات في التعمية وطمس الحقائق، ووزارة التموين تكتفي بالتصريحات والبيانات المغلوطة وكل شيء تمام وعلى طريق الإنجاز.. تحولت الفرحة إلى كابوس وشكل البرلمان لجنة لتقصي الحقائق في فساد السلعة الاستراتيجية الأهم في مصر.. ظهر الفساد جليًا وأعلن عن منظومته التي تمكنت من كل شيء فحققت مكاسب غير مسبوقة في زمن قياسي يستحق تسجيله في إحدى الموسوعات العالمية !
رئيس لجنة تقصي الحقائق قال إن هناك ما يزيد على 500 مركز تجميع للقمح بين صوامع وشون، وإن اللجنة فحصت نحو 10 مراكز فقط من بينها، والنتيجة –ما شاء الله مبهرة- كلها فيها فساد يزكم الأنوف وصل إلى ما يقرب من نصف مليار جنيه تم اختلاسها بالتوريد الوهمي، وقال إنه لا يشك في أن باقي الصوامع لا تقل فسادًا عن ما تم فحصه ناهيك عن الفساد في إجراءات التعاقد مع صوامع قطاع خاص غير مطابقة المواصفات في الوقت الذي تملك فيه شركة الصوامع عددًا كبيرًا لم تستغله في التخزين لإفساح المجال للفساد المنظم مع أصحاب الصوامع الخاصة!
وبعد أن كنا نغنى للقمح.. صرنا نبكي عليه، ونبكي على حالنا الذي تدهور بأيدي قلة من المصريين ماتت ضمائرهم فاستباحوا المال الحرام، واستباحوا دم الغلابة ومحدودي الدخل وشربوه في بطونهم سمًا ناقعًا.. هل يكمل البرلمان دوره ويواصل الرقابة وكشف الفساد أم أن طبقة المصالح داخل البرلمان وخارجه ستحول دون ذلك وتترك المياه الآسنة تجري في النهر؟