رئيس التحرير
عصام كامل

عندما تصنع الجماهير تاريخها


ناصر ٥٦ واحد من الأفلام المصرية عميقة التأثير، ليس لأن أحمد ذكي بطله فقط، ولا لأن مؤلفه العبقرى محفوظ عبد الرحمن، ولا لأن مخرجه المتألق محمد فاضل.. فناصر ٥٦ تجسيد لواحدة من أيامنا المجيدة، وقدرة خاصة من فريق العمل الذي استطاع أن يجسد لنا شخصية مصر في عدد من المشاهد المكثفة، من خلال أبطال عاديين جدا، لم يكن واحد منهم خارقا للعادة، ولا صاحب كرامات من عالم الأولياء ولا صاحب بطولة خارقة للعادة.


في ناصر ٥٦ يعزف جمال عبد الناصر على أوتار الأمل المفقود لدى الأمة.. يصنع بطولاته من خلال مواطنين بسطاء.. يلجأ إلى خبرات مصرية وكوادر مصرية.. يبحث عن العلماء والخبراء والكفاءات عندما يكون الأمر متعلقا بعمق الأداء وانضباطه، ويبحث عن الحماس والإخلاص والشباب عندما يكون في حاجة إلى مغامرين لا يرون أن هناك مستحيلا.. نجح ناصر لأنه لم يأت بمعجزات من السماء، وأفلح ناصر لأنه لم يبن قصورا من أوهام.

لحظات الصدق الوطنى في شخصيات المرحلة هي الدافع لأن تعيش تلك اللحظات بين الأجيال.. باعتبارها لحظات ذهبية في تاريخ البلاد.. باختصار لجأ ناصر إلى الناس وعاش بينهم، فصنع عملا مجيدا رغم الكلفة الكبيرة في ذلك الوقت.

أما ناصر ٦٧ فهو تجسيد لتغير مرحلى في الشخصية التي اختارها ناصر، أو فرضت عليه من جماعة أهل الثقة، فبدا واضحا أن البلاد تدار وفق أجندة الشلة.. أحاطوه بسياج من الثقاة، وأبعدوه عن ذلك الخيط المنتصر في عام ٥٦.. أبعدوه عن الأبطال الحقيقيين، وغلفوا قصر الرئاسة بسياج من لحم مصطنع، ودم زائف، وظهر بوضوح أن فريقين يحكمان.. جاءت لحظة تحطم المشروع في ٥ يونيو؛ ليكتشف عبد الناصر أنه اعتمد على وهم المقربين، وسلم نفسه لبطل من ورق.

ما بين الصورتين ملامح الخلاف، ففي الأولى شارك مهندسون وشرطيون ومواطنون وموظفون ومحاسبون وأساتذة جامعة، وضباط جيش في صنع الملحمة.. في الثانية استبعد من المشهد المواطنون والمهندسون والخبراء، وظهرت جماعة عبد الحكيم عامر.. اختفى الناس العاديون، أهل الشارع والحارة، أساتذة الجامعات والمثقفون.. كانت رتبة المشير على كتف عامر هي اختصار المشهد.

بعد الصدمة عاد عبد الناصر مرة أخرى إلى الناس.. وقال خطاب التنحى.. عادت إليه الناس، وبدأ في إعادة الملامح الرئيسية لمشروعه بالناس، وبالمخلصين، وبالعلماء والخبراء خاض حرب الاستنزاف بضراوة وبعد عن ذاته مرة أخرى، وعن تجربته بعد أن دفع ثمنا لايزال عبرة على صفحات التاريخ.

القصة دائما في المحيط.. في أن يصبح الناس جزءا من التجربة.. أن يصبحوا هم أبطالها بعيدا عن صناعة أبطال وهميين.. الجماهير تحافظ على ما تصنعه ولا تحترم ما يقدم لها على أنه صناعة عظيمة.. لقمة عيش بسيطة من كد المرء أمتع لديه من كل صنوف الطعام إن لم يكن عرقه مخلوطا بها.. ويصبح الماضى طيفا جاذبا كلما كان المستقبل صورة مهزوزة.. لذا فإننا لا نزال نتوق للماضي.. نعشقه.. ندمنه رغم أنه لم يكن مثاليا غير أنه كان واضح المعالم.
الجريدة الرسمية