أنا عاوز أسافر !
إذا تم تنظيم طابور للهجرة من تلك البلاد حسب الرغبة كنت سأكون آخرهم، الأمر لا يتعلق بالوطنية أو بحب البلد، لا أملك الشجاعة أن أقول إن مصر هي أحب بلاد الله إليَّ، لست مثاليًا على الإطلاق لكن أسباب رفضي كوني لا أحب الغربة المغلفة بتحمل المسئولية، ثم إنني صحفي وأكتب الروايات ماذا يمكن أن أفعل في بلاد الغرب، فرصة الحصول على عمل يوافقني أمرًا صعبًا، بالإضافة إلى أننى أعمل في مصر وهذا أمر لو تعلمون عظيم.
الآن تغير الأمر تمامًا، على استعداد أن أتخلى عن كل شيء، أتحمل الغربة بكل عواقبها الوخيمة، أتخلى عن الصحافة حبيبتي التي لا أملك غيرها حتى الآن، قادر على توديع شارع المعز وإلقاء النظرة الأخيرة على ميدان التحرير، اليوم أستطيع أن أواجه أبي وأمي، أصرخ فيهما ليسمحا لي بالسفر، ما داخلي أكبر بكثير من الحكي، حيلتي أصغر من حلمي، وقدرتي على الحياة تتضاءل يومًا بعد آخر، كل شيء أسود ليس هذا السواد القابل للذوبان لكنه أسود قاتم غير قابل للتخفيف.
ماذا يمكن أن أفعل هنا؟ أعمل ؟ وماذا بعد؟! لن أحصل على أي شيء في النهاية، بل إنني حسبت لو لم تكن الشقة التي اشتراها لي والدي ولم أدفع فيها مليمًا موجودة هل كنت سأشتري شقة، بحسبة بسيطة وجدت أن شراءها يحتاج إلى راتب 8 سنوات دون أن أصرف مليمًا واحدًا وضعفها إذا صرفت ما يكفي حاجتي اليومية فقط أي 16 سنة نعم كانت تلك النتيجة، كان يمكن أن أصبر، أواسي نفسي، أطبطب جراحي بكلمات الله كريم، لكن ذلك قبل أن يشتري محمد رمضان السيارتين المحببتين إلى قلبه أو أن أعرف ما يتقاضاه طالب الثانوية العامة رمضان صبحي.
ماذا يمكن أن أفعل هنا؟ أتزوج، حتى دون شبكة كما ظهرت المبادرات أخيرًا، الأمر لا يتعلق بمصروفات الزواج، رغم كل ما قيل الناس الأصيلة مازالت موجودة، والحب رغم ندرته لكن له سطوته، تفكيرى أعمق من ذلك وماذا بعد الزواج، هل سأنجب طفلا، أرتكب تلك الجريمة، أجيء به إلى الدنيا ليحمل كلمة «مصري»، أنا الذي ألوم والدي أنه جاء بي إلى تلك الدنيا أكرر نفس مأساته وأجيء بولد مطالب أن يتعلم في مدارس «الهلالي» ويعالج في مستشفيات أحمد عماد الدين ويدخل جامعات أشرف الشيحي، ثم ماذا بعد أن يكبر، كصحفي لست من الفئات التي تستطيع أن تحمى أولادها نحن لا نحمى أنفسنا من الأساس كيف سأوفر له حماية كريمة، بل ما الحل إذا صفعه أمين شرطة على قفاه لأي سبب، هل سأكتفي بالصمت أم أذهب معه لقسم الشرطة ليناولني أنا الآخر قفا ميري !
ربما سأنجب بنتًا، أحب ذلك كثيرًا، لن يضربها بالطبع أمين شرطة، لكن سيعاقبها المجتمع إذا فكرت أن تكون غير محجبة، ستّقطعها الألسن إذا ارتدت فستانا وأطلقت عنان حلمها المكبوت داخلها، وكأخيها ستجيئني بعد أن يعلن مساعد وزير الداخلية أنه سيلاحقها لأنها اشتركت في حفل «بول بارتي»، ستأتيني مهرولة، شعرها هش، عيونها يسكنها الخوف من قادم مجهول، أنفاسها المتقطعة ستخلع قلبي من مكانه، تحتضنني وتبكي قبل أن تتكلم، بابا أنا مطلوبة أمنيًا، وزارة الداخلية قالت كده قبل أن أطمئنها أنه لا يوجد أي ملاحقة باختصار لا توجد أي مادة في القانون تمنع «البول بارتي».
حسنًا، لن أتزوج، لن أغامر بتلك التجربة لكن وماذا عني، أوليس لنفسي عليّ حق؟! أنا أخاف من المستقبل، نعم مصيري غير مضمون، بل حين تميزت في شيء تم غلق الباب في وجهي لأني صغير السن وكأن استكثروا ذلك، أخشى أن يزج بي في السجن ذات يوم لأن ضابط شرطة لم تعجبه ملامحي، ربما يصفعني لأنه يريد أن يثبت لنفسه أنه قوي.
أجلس ؟ لماذا؟ لأطالع مصريين يقتلون بعضهم بعضا بسبب شائعة عن بناء كنيسة، أم أصبر لأستمع خطاب وزير القوى العاملة وهو يؤكد أن هناك وظائف بستة آلاف جنيه، حتى نقطة المياه قد تكون مهددة بالخطر، كان يمكن أن أجلس لو أن هناك من يعترف بالأزمة، لكنهم يتجاهلونها تمامًا، لهم حق، ملياراتهم خارج البلاد تدفعهم للأمان، أما أنا لا أمان لي، سأظل هكذا ثورًا في الساقية ينادوني يا ثور بطل تلف فأرد "لفة كمان لحد ما البير يجف".
كل شيء حولي يشير إلى أنني أحيا في مستنقع، كل شيء هنا الأسوأ والأبشع، لم تعد طاقتي تتحمل على الإطلاق، لم يعد هناك من أحيا من أجله في تلك البلاد، المستقبل أسود ولا شك.
ماذا أفعل في الخارج لا أعلم، فقط أريد أن أبعد عن وجوه السيدات الكبار وهم يفترشن الأرض أمام وزارة التموين لصرف السلع التموينية، ألا أرى حبس فرقة غنائية لأنها عارضت الدولة، أن أشعر ولو لمرة واحدة أن ثمة بلاد في مقدورها أن تحترم الإنسان.
عاوز أسافر، وأعد كل من يساعدني بعدم العودة؛ للنجاة من هذا المستنقع الذي لم يتح لي رفاهية السفر، فوضع قيوده الكثيرة حتى يكون النفاذ منه أمرًا شبه مستحيل !