رئيس التحرير
عصام كامل

مصطفى أمين في مغامرة صحفية


في عام 1946 كان الصراع على أشده بين "الأهرام" و"أخبار اليوم".. أشهر صحيفتين في ذلك الوقت.. وكان يقود العمل في الجريدة الشابة التوءم على ومصطفى أمين.


وبحثًا عن انفراد في عدد السبت، حيث كانت تصدر "أخبار اليوم" أسبوعيًا، اجتهد الجميع بحثا عن خبر الموسم فلم يوفق أحد، لكن مصطفى أمين قرر فجأة أن يسافر للقاء إسماعيل باشا صدقي، رئيس الحكومة، الملقب بـ "الرجل الحديدي"، في عزبته بقرية "الغريب" التي تقع بمركز زفتى بالغربية؛ بحثًا عن "خبطة".. ومن أجل ذلك خاض مغامرة صحفية خطيرة.

دخل مصطفى بيت صدقي في العزبة، فوجده جالسًا مع أعيان دائرته الانتخابية، يتحدث إليهم عن الري والصرف وزراعة القطن والبرسيم وشكاواهم المختلفة.. لا شيء عن المشكلات الكبرى.. المفاوضات مع الإنجليز.. التشكيل الوزاري ودخول السعديين في الحكومة.. إلخ.

جلس مصطفى أمين 3 ساعات كاملة.. تحمل فيها سماع أحاديث مملة عن الريف والمحاصيل والزراعة.. وفجأة قال إسماعيل صدقي إنه سيسافر بعد دقائق إلى رأس البر على الباخرة "محاسن"، ودعاه للسفر معه لتمضية عطلة العيد.

احتار مصطفى أمين.. ماذا يفعل؟! المحررون في الجريدة ينتظرونه على أحر من الجمر، وهم يعقدون عليه الآمال في انتزاع "خبطة" تتصدر الصفحة الأولى، ويتفوقون بها على الأهرام.. وأحس أنه حقق فشلا ذريعًا، وأنه لا يستطيع مواجهة زملائه في القاهرة.. فقرر أن يلبي الدعوة فرارًا من المواجهة.

واستقل مصطفى الباخرة مع صدقي، وجلسا في غرفة الباشا يحاول أن يستدرجه في الحديث عن المفاوضات، فقال صدقي: إنه لا يريد أن يتكلم عن المفاوضات في هذه الظروف.

حاول أن يسأله عن مشروع القانون الذي وضعه لمكافحة الشيوعية، فقال صدقي: إنه لا يريد أن يتكلم عن هذا الموضوع... رفض الرجل أن يتفوه بأي تصريح.. قائلا: إنه في عطلة العيد، ويريد أن يستريح، ولا ينوي الحديث في السياسة.. وفجأة سأله مصطفى أمين: "لقد سمعت أن السعديين سيدخلون الوزارة".

وإذا بصدقي يهز رأسه بشدة، ويقول: لا.. هذا غير صحيح إطلاقا.

التكذيب السريع، جعل الحس الصحفى لدى الصحفي النابه ينتعش، وزاد يقين مصطفى بأن الخبر صحيح، فأسرع وغيّر الموضوع، ثم هرش رأسه، وقال: "هل تمانع دولتك في أن أكتب ما قلته لأهالي بلدتك عن خطورة حالة الفيضان الذي يهدد المزروعات في الوجه البحري؟".. قال رئيس الحكومة: لا مانع.

وبحث مصطفى عن ورقة في يده ليكتب هذا التصريح "التافه" فلم يجد.. فأشار صدقي إلى حقيبة أوراقه، وقال: إن فيها "بلوك نوت".. وقام مصطفى إلى الحقيبة، ومد يده إلى "البنك نوت" لينتزع ورقة، وإذا به يجد في الصفحة الأولى منه سطورا بالقلم الرصاص.. وفي أقل من "الفيمتو ثانية" احتفظ بالكلمات في ذاكرته، وانتزع الورقة البيضاء، وعاد إلى صدقي باشا ليكتب تصريحه عن الفيضان.

وبدلا من أن يكتب تصريح الفيضان، أسرع مصطفى يدون ما انطبع في ذاكرته مما قرأه في الصفحة الأولى من "البلوك نوت".. كان مكتوبا: "لطفي نائب رئيس.. عبدالهادي وزير خارجية.. السنهوري.. دولة.. حفني صحافة.. بدر مواصلات.. كامل مرسي مجلس دولة.. محمود حسن عدل"..

وأي شخص عادي لم يكن ليفهم المقصود من هذه السطور، ولكن مصطفى فهم الكثير من هذه الكلمات.. فهم أنه حصل على أكبر خبطة صحفية في الموسم.. فهم أن هناك تشكيلا جديدا للحكومة على وشك الانتهاء.

أراد أن يضبط أعصابه فلا يظهر عليه الاكتشاف الكبير.. فراح يتحدث مع صدقي عن الفيضان وأثره.. ثم عاد يسأله: هل هناك جديد في الموقف السياسي؟ فيرد صدقي ببراءة: "لا جديد.. لو كان هناك شيء لأخبرتك به".

وفجأة وضع مصطفى يده على رأسه، وقال إنه يشكو صداعا حادا.. وعرض عليه صدقي أن يأتي له بأسبرين، فرد مصطفى: إنه يفضل أن يعرض نفسه على طبيب.

وقال صدقي: إن الباخرة ستصل بعد ساعات إلى المنصورة، ولكن مصطفى قال إنه يرى أن ينزل في أول مدينة على الطريق.

وخرج مصطفى أمين إلى شرفة الباخرة فرأى تاكسي يسير في الطريق الزراعي، فأشار إليه أن يقف، ثم طلب من قبطان الباخرة أن يوقفها لأنه مضطر أن يعود لاستشارة الطبيب.. ووقفت الباخرة "محاسن" ونزل منها.

خشى مصطفى أن يحدثه صدقي في شأن الخبر الهائل الذي حصل عليه بمحض المصادفة، وأن يطلب منه عدم نشره.. وبهذا يضطر لكتمانه؛ لأن الصحفي إذا باح بخبر اؤتمن عليه خسر مصدره للأبد.. وكان صدقي مصدرًا كبيرًا، ولم يرغب مصطفى في أن يفقده.. إذن الحل هو أن يختفي بأسرع ما يمكن من الباخرة، ولهذا تظاهر بالصداع.. وركب التاكسي إلى القاهرة.

وقبل أن يصل إلى بنها انفجر إطار السيارة.. وعجز السائق عن إصلاحه، فركب مصطفى حمارًا إلى محطة بنها، ومن بنها ركب القطار إلى القاهرة.

وما كاد يصل إلى "أخبار اليوم" حتى أغلق دونه الأبواب ليكتب خبر الموسم بالمانشيت الأحمر بعرض الصفحة الأولى.. "اشتراك السعديين في الوزارة"... "أصبح في حكم المقرر اشتراك السعديين في الوزارة الحاضرة.. وقد جرت مباحثات في اليومين الأخيرين أحيطت بتكتم شديد.. فلم يسمع بها أحد، ولم تتسرب أنباؤها للصحف".. "سيعين أحمد لطفي السيد وزير الخارجية نائبا لرئيس الوزارة.. وإبراهيم عبدالهادي وزيرا للخارجية.. والدكتور عبدالرازق السنهوري وزيرا للدولة.. وحفني محمود وزيرا لشئون الصحافة.. وعبدالمجيد بدر وزيرا للمواصلات، وكامل مرسي رئيسا لمجلس الدولة.. ومحمود حسن وزيرا للعدل".. وصدر عدد "أخبار اليوم" في 31 أغسطس 1946، يضم هذه "الخبطة" في صفحته الأولى.. وصدرت "الأهرام"، وباقي الصحف وليس فيها كلمة واحدة عن دخول السعديين الحكومة.

وهكذا سجل مصطفى أمين إحدى "خبطاته" وانفراداته.. ولا شك أن تلك المغامرة مليئة بالدروس التي يمكن أن يستفيد منها صحفيــو الجيل الحالي والأجيال القادمة.. فالكثيرون أصبحوا "يستسهلون" أثناء ممارسة العمل الصحفي.. إنها دروس في "المهنية الغائبة"، و"الذكاء الصحفي المفتقد".
الجريدة الرسمية