الانقلاب الشعبي أقوى
بداية لابد وأن نقدم أخلص التحايا إلى الشعب التركي العظيم.. هذا الشعب الذي واجه الدبابات بصدور عارية لحماية تجربته، وأيضا لابد وأن نحيي المعارضة التركية التي ضربت المثال في خصومتها ووقفت إلى جانب تعميق تجربتها ورفضت رفع السلاح في الحياة السياسية، وتحية خاصة إلى الجنود الذين رأيناهم في الدبابات دون أن يستخدموها ضد الشعب الذي واجههم بجسارة.. كلها صور إنسانية رائعة وعميقة ملهمة.. نعم هي واحدة من صور الإلهام السياسي والديمقراطي.
بعد البداية هناك ثانيًا وثالثًا ورابعًا.. وثانيًا: فإن أسوأ صورة ظهرت على الوجود هي صورة المتغطرس الجريح رجب طيب أردوجان، وهو يشير بين أتباعه بعلامة رابعة.. هذا الرجل وفي هذه اللحظة كان حديث العالم.. كان مثار شفقة الناس.. كان مثار عطفهم وهو ذليل يحاول لملمة حطامه النفسي المبعثر دون جدوى.. بدا على وجهه رعب لم نره من قبل.. كانت قسمات وجهه تطلب الرحمة والعفو من مصير مجهول.
وعندما لاح له في الأفق أمل في البقاء.. عندما اطمأن إلى معاونة دول وجماعات وأحزاب.. عندما همسوا في أذنيه أن كل شيء تمام.. انتظره العالم لكى يتحدث إلى الناس حديث المنتصرين.. خرج الرجل في مشهد سطحى وساذج عندما لوح لأتباعه بعلامة رابعة.. سكت دهرا ونطق كفرا كما يقولون.. هذا المشهد يمكن تفسيره في حجمه التافه، إذ أن تفسيره أبعد من ذلك يوحي بالجرح الغائر الذي أصاب الجماعة على يد المصريين.
بدا واضحًا أن أردوجان العائد جريحًا وذليلًا ومكسور الجناح لم يجد ما يعبر به عن عودته إلا علامة رابعة وهى العلامة التي أرادوها رمزًا للصمود، رغم أنها كانت ولا تزال رمزًا لانتحارهم السياسي والمعنوي والمادي.. بدا أن أردوجان الذي كسرت هيبته يحتاج إلى الكثير من الوقت حتى يستعيد ثقته في ذاته وفي حزبه وفي الأرض ومدى صلابتها تحت أقدامه.. صحيح انتصر الرجل غير أن الجراح العميقة في هويته السياسية ستجعله مع بلاده أكثر خجلا في إطلالاتها على العالم الخارجى.
كان واضحا بعد إعلان علامة رابعة باعتبارها علامة عودة أن الطيب فقد كثيرا من مساحات المنطق والعقل حيث لا علاقة للمصريين بشئونه الداخلية؛ فالذين حاولوا الانقلاب عليه أتراك والذين ساندوه أتراك والقضية داخلية من الطراز الأول دون أن يكون لنا علاقة من قريب أو بعيد.. ما الذي جعله يتذكر علامة رابعة في هذا الوقت؟ أغلب الظن أن أردوجان الذي كان قد استعاد بعض سلطانه المهدد لم يكن قد استعاد بقية عقله حتى هذه اللحظة.
بعد «سكرة» السقوط المفاجئ و«نشوة» العلامة الربعاوية تماسك الرئيس التركي واتخذ من القرارات ما يؤكد حالة الانتقام والحقد والكراهية التي تسكن هذه الجماعة منهجًا وسلوكًا وطريقة وأسلوب حياة.. اعتقل قرابة الثلاثة آلاف عسكري مع أنه هو القائل إن فصيلا صغيرا هو صاحب المحاولة.. عزل واعتقل حتى تاريخه اكثر من ٥٠ الف من القضاة والعسكريين والموظفين و قال في تصريحاته إنه سيتعامل مع المؤسسة العسكرية تعامله مع الإرهابيين ثم تراجع وقال إن المؤسسة ستطهر نفسها بنفسها.
ربما تكون هذه الإجراءات هي الأولية وربما يعقبها ما هو أبعد من ذلك.. تركيا الغد لن تكون هي ذاتها تركيا الأمس، وأردوجان الطاووس المتغطرس لن يعود إليه أمانه الشخصى مهما فعل، وقد تقوده ديكتاتوريته وتجبره السياسي واعتقالاته وانتقامه من خصومه إلى ما هو أعمق من فكرة الانقلاب العسكري.. ربما يحمل له الغد انقلابًا شعبيًا عظيمًا يلقى به وبجماعته في صفحة ماضوية لا تعود.