من دفتر أحوال مصرية في جنوب فرنسا
"بروماندز أنجليه" وتعنى المتنزهات الإنجليزية وهى أجمل مكان بمدينة نيس جنوب فرنسى، حيث كورنيش البحر وأماكن مخصصة للدراجات وأسفلها الشاطئ، ولهذا فهى أفضل مكان للتنزه والتريض والاستراحة والسباحة، ومساحتها كبيرة مما أهلها لتستقبل أعدادًا كبيرة من البشر في احتفالات العيد القومى في 14 يوليو، حيث كان حادث الدهس المريع..
وفى هذه المرة اختلف الوضع بالنسبة لى بشكل شخصى عن تفجيرات باريس، فلم يكن مجرد حادث مخيف سيجعلنى وكل عربى على أرض فرنسا في حرج حال اكتشاف أن الجريمة بيد عربية مسلمة؛ لأننا حين نكون قريبين جدًا من الحدث تختلف ردود أفعالنا، فأول ما يتبادر لأذهاننا هو الاطمئنان على من نعرفهم في مدن الجنوب الفرنسى، وأنا قريبة جدًا من مدينة نيس وموجودة بها بشكل مستمر، وفى مثل هذه الاحتفالات ستجد كل من تعرفه هناك من أسر فرنسية وعربية وشباب وأطفال وسائحين من كل الجنسيات يعشقون هذه الأجواء والألعاب النارية..
كان ينتظرهم الموت تحت عجلات سيارة مجنون تونسى يمر بأزمتين مادية ونفسية؛ لأنه كان في حالة طلاق مع زوجته وله ثلاثة أولاد؛ ولأن له سوابق إجرامية حكمت المحكمة بالحضانة للأم، وكان من العناصر غير المعروفة للبوليس الفرنسى كمتشدد دينيا، خاصة أن جيرانه قالوا إنه لم يصم رمضان هذا العام، وكان يحب الرقص والنساء..
وسواء كان ما فعله هذا المخبول هو لحظة جنون، وتعاطى فيها شيئًا غيبه عن الوعى، جعله يدهس أطفالا ويستمر في الدهس مسافة 2 كيلومتر أو كان قد تم تجنيده من قبل جماعات متطرفة للقيام بهذه العملية، كما هي عادتهم في اختيار الشباب الضائع ذي النزعة الإجرامية وعمل غسيل مخ لهم وإقناعهم أن كل ما ارتكبوه في حياتهم من جرائم سيمحى ويطيرون إلى الجنة إن قتلوا أبرياءً، فالنتيجة للأسف واحدة..
لأن تلك الجرائم تكررت أكثر من مرة فما زلنا نذكر حادثة محمد المراح الذي قتل عسكريين في الشارع وثلاثة أطفال يهود أمام مدرستهم ومن بعدها حادثة شارلى إيبدو، والتي أعلن من فعلها أنها كانت انتقامًا للرسومات المسيئة للرسول ثم تفجيرات باريس في الاستاد والمطعم والمسرح انتقاما لسوريا حتى تأتى واقعة دهس نيس لتصبح الأكثر بشاعة وانعداما للإنسانية لأنها قتلت أطفالا لم يرتبكوا ذنبًا ليعاقبوا عليه، فلم تعد هناك تبريرات يمكن أن نقدمها على أن المجانين السفاحين في فرنسا في كل مرة من أصول عربية رغم أن الشباب العربى والأسر العربية كانت بين الجموع في الاحتفالات مهددة الأرواح والأمان مثل الجميع.
في أول رد فعل بعد الحادث بساعات وجدت مجموعة من السيدات في مكان الدهس ووضعن الزهور على أرواح الضحايا وعلقت سيدة وقالت جئت لأننى أعلم أنهم ربما ليسوا بعيدين عنا، وربما هم هنا حولنا فأردت أن أرسل لهم رسالة أننا لن نخاف وسأظل ألبس الشورت وسأظل فرنسية، رسالة إلى من، إلى من تتصورهم يريدوها ألا ترتدى شورت وتتغطى لتكون مسلمة بالإجبار أو يعاقبوها لأنها ليست مسلمة.
في اليوم التالى كانت سيدة عربية محجبة تتحدث مع أخرى فرنسية في الشارع بصوت عال ليسمعه الناس عن عمد وتقول لا يجب الخلط بين المسلمين والإرهابيين وكأنها تدافع عن نفسها رغم أن أحدًا لم يتهمها علانية، ولم يتوقف ليناقشها أحد وتمنيت لو قلت لها أن تصمت لأن الوقت والأسلوب غير مناسبين حتى لا تعرض نفسها لغضب أحدهم وأن تترك الألم يأخذ مجراه والجراح تمضى في طريقها ورغم أن الفرنسيين لم يظهروا لنا غضبهم فهم شعب راق ومتحضر لن يغير معاملته معنا، لكن عيون بعضهم تتحدث وتتهم كطلقات رصاص ولا نملك الدفاع عن أنفسنا لأنهم لا يتكلموا..
ولو أنهم تكلموا لناقشتهم بل لبدأت نقاشى بحرب العراق المسئول الأول عن كل ما يحدث على الرغم من أن فرنسا كانت للأمانة ضد هذه الحرب، لكنَّ أحدًا لم يفعل شيئًا ليوقفها ومازلت أذكر كلام مبارك الذي مهما اختلفنا عليه كان داهية سياسية فقد قال وقتها لقد حاولنا بكل الطرق إيقاف هذه الحرب وفشلنا لأنها ستكون سببًا في تفحل الجماعات المتطرفة ولن يصبح العالم آمنًا، وهذا ما تحقق بحذافيره فالعالم كله لم يعد آمنًا الآن.
والسؤال الذي يطرحه الكثيرون عن تداعيات الحادث داخليًا، فأعتقد سيكون رد فعل الشعب الفرنسى في الانتخابات حيث يمكنه أن يختار حكومة يمينة أو يمنية متطرفة تكون أكثر شدة مع المهاجرين لأن الحكومة اليسارية الحالية مقيدة كثيرًا بقوانين حقوق الإنسان وتحترمها، كما أن تناولها للقضايا العربية هو تناول جيد مقارنة بحكومات أخرى يمكن أن تأتى وتغير سياستها تحت الضغط الشعبي، مع احتمال ضعيف لتظاهرات لليمين المتطرف في جنوب فرنسا..
وما لا يعلمه الكثيرون أن التيار اليمين المتطرف يحظى بتشجيع في الجنوب أكثر من الشمال في باريس ويظل الاحتمال ضعيفًا لأن مدينة نيس يوجد بها أعداد كبيرة من العرب فلن تحصل التظاهرات على تصاريح خوفًا من التصادم.. كما أتوقع أنه لو تم طرح فكرة خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي أن تجد ترحيبًا لدى الشعب الفرنسى فالحدود المفتوحة مع أوروبا أصبحت تمثل خطرًا كبيرًا عليهم فأمانهم الآن أهم من أي تداعيات اقتصادية منتظرة حال خروجهم من الاتحاد.