متى تتشكل لجنة عربية للتحقيق في غزو العراق؟
يثير فضولى أن الغرب يصطنع دهشة بعد انتهاء المشهد بثلاثة عشر عاما، عندما يشكل لجنة إنجليزية برئاسة السير تشيلكوت للتحقيق في مشاركة القوات البريطانية في غزو العراق؛ ليخرج علينا تقريرها النهائى، مؤكدا ما كان أصغر مواطن عربي يعرفه.. لا سلاح كيماوى لدى العراق.. لا حجج شرعية في الغزو.. لا ضرورة آنية لمشاركة قوات بريطانية في العمليات العسكرية.. لا مسوغ قانونيا دوليا في العملية كلها.
تلك الدهشة التي عبرت عنها صحف بريطانية ومؤسسات إنجليزية كبرى وأجهزة حكومية وشخصيات عامة وصناع قرار في ماكينة الإدارة الإنجليزية إنما هي من قبيل العمل الساخر الذي نراه نحن في منطقتنا باعتباره مسرحية هزلية لا إنسانية، تعبر عن كيفية تعاطى الغرب مع القضايا الإنسانية بازدواجية عنصرية، تكاد تتطابق مع شعارات الحروب الصليبية المعروفة تاريخيا، خاصة وأن الضمير الأوروبي على وجه العموم والإنجليزي على وجه الخصوص لم يتحركا ندما على ضياع دولة العراق.
كل ما وصلت إليه لجنة تشيلكوت هو فصل ساذج وسطحى من فصول العمل المخابراتى الإنجليزي، والذي تم كتابة تفاصيله للدفع بقوات إنجليزية لإسقاط بغداد، وتدمير العراق، لدرجة أن تفاصيل مصادر المعلومات الخاصة بالبرنامج الكيماوي العراقي، تثير السخرية من طريقة عمل جهاز مخابرات كان يعمل في هذه الفترة وفق أجندة إسماعيل ياسين في فيلم ابن حميدو، وهو الأمر الذي صيغ على هذا النحو المستفز، ليكون أكثر إيلاما لمنطقتنا.
وتحرك الضمير الإنجليزي حسب تفاصيل ردود الفعل لم يكن من أجل إعلان الأسف والاعتذار للعراق، أو الأسف على مئات الآلاف من ضحايا واحدة من أكثر دول العالم إسهاما حضاريا في التاريخ الإنسانى.. لم يتحرك تشيلكوت ورفاقه من أجل إعلاء قيم إنسانية كونية أو من أجل الاعتراف بخطيئة الغرق في بحر الدماء العراقية أو إعلان بريطانيا اعتزامها تعويض العراقيين أو محاكمة مجرمي الحرب.. كان التحرك كله لأن بريطانيا فقدت ما بين ٢٧٩ إلى ٢٠٠ جندى من أبنائها !!
مليونا عراقى راحوا ضحايا "غلطة" إنجليزية أمريكية شارك فيها العرب بدفع الفاتورة لم تحرك الضمير الغربى، وإنما تحرك الإنجليز لأن مائتى أسرة إنجليزية فقدت أبناءها هناك في جريمة إنسانية.. الغرب تحرك لأن أسر الضحايا قد اكتشفوا أن أبناءهم قتلة ولم يكونوا جنودا مقاتلين من أجل حماية الغرب من خطر وداعة العراق وبراءة العراقيين.. الغرب تحرك لأن مائتى جندى راحوا في مقابل مليونين من العراقيين.
الشارع الإنجليزي مندهش لأن رئيس وزرائه بعد ثلاثة عشر عاما اتضح لهم أنه كاذب.. اكتشفوا بعد ثلاثة عشر عاما أن ما قاله عن امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل غير حقيقي.. مندهشون تحت زعم أن تقرير تشيلكوت ذكر لهم ما كانوا يجهلونه.. مندهشون وغير نادمين.. ربما يتباكون لأنهم فقدوا ٢٠٠ جندى إنجليزي هناك، غير أنهم لايتذكرون عدد ضحايا العرب.. ثلاثة عشر عاما من القتل والذبح والتدمير والتخريب.. ثلاثة عشر عاما من التهجير والتقسيم وزرع الفتنة الطائفية.. ثلاثة عشر عاما خرج فيها العراق من التاريخ ومن الجغرافيا ومن الإنسانية كلها.. ثلاثة عشر عاما من الفقد والفقر والحرمان.. ثلاثة عشر عاما والغرب يحلب العراق ويستولي على خيراته، وينهب ثرواته، ويدمر تاريخه، ثم يستيقظ الضمير الغربي ليندهش.
واذا كان الغرب قد اختار مضي ثلاثة عشر عاما ليصطنع لنفسه دهشة وليصنع لذاته ضميرا وهميا، فمتي إذن يتم تشكيل لجنة عربية للتحقيق في مشاركة القوات العربية في غزو العراق ؟.. إذا كان للغرب ضمير مصطنع فإن هذا الضمير غير موجود أصلا في عالمنا العربي.. لهذا السبب تحركوا لأنهم فقدوا ٢٠٠ جندي من تلك النوعية.. نوعية "أبوضمير" مصطنع، أما من فقدناه فإنهم ينتمون إلى منطقة لم تعرف الضمير بعد!!