السلطة والجامعة (13)
كانت هناك سلطة أخرى تلعب في الخفاء تحقيقًا لمصالحها وهي سلطة الاحتلال البريطانى السلطة الحقيقية في مصر والتي كانت تلعب من وراء ستار، فقد كان من المعروف أن هناك منافسة محتدمة بين الإنجليز والفرنسيين من الأساتذ العاملين في كلية الآداب، وكان طه حسين بحكم تعليمه وعلاقته بالفرنسيين وكرهه الاحتلال معروفا بمناصرة الفرنسيين في مجلس الكلية وكانت هذه فرصة للإنجليز لإعطائه درسًا فاستغلوا تلك الفرصة فضغطوا على القصر الملكى للتخلص من طه حسين بزعم تهديده الاستقرار في البلاد عن طريق التسبب في فتنة دينية !
كان طه حسين ذكيا ويعرف أن الأمواج هذه المرة كانت عاتية وأقوى كثيرًا من أن يواجهها بمفرده وكان يثمن موقف الجامعة التي تمسكت بحرية البحث العلمى والتعبير عن الرأى رغم كل الضغوط التي تعرض لها أعضاء مجلس إدارتها، لكن حرصهم على استقلال الجامعة ومنع تدخل أي قوى خارجية بشئونها كان في حد ذاته عونا له فأرسل خطابا رسميا إلى مدير الجامعة يعلن فيه أنه حرصا على حل المشكلة، فإنه يعرض على الجامعة مقترحا لوأد الفتنة يتضمن وضع باقى النسخ التي مازالت في المطبعة ( 787 نسخة) تحت تصرف الجامعة، ومن الواضح أن هذا كان بالاتفاق مع مدير الجامعة أحمد لطفى السيد الذي قرر شراء الجامعة لهذه النسخ بمبلغ مائة جنيه، وبدأت الجامعة في جمع باقى النسخ التي لم تبع فاشترت الجامعة 34 نسخة أخرى كانت بحوزة مكتبة الهلال، وتم حقظ النسخ في صناديق مختومة بالشمع الأحمر في مخازن الجامعة، ونشرت الجامعة بذلك بيانًا في الصحف تضمن الإشارة إلى أن طه حسين قد خاطب مجلس الجامعة، مؤكدًا إسلامه ونافيًا الخروج على الدين أو إهانته وأنه قد تقدم باستقالته حتى لا تتحمل الجامعة مسئوليته لكن مجلس الجامعة لم يقبلها.
لم يرض ما حدث شيوخ الأزهر وعلموا أن الجامعة تحمى أساتذتها فقرروا نقل المعركة إلى القضاء وإلى البرلمان على أساس أن الجامعة لم تعد كما كانت أهلية مستقلة، بل أصبحت ملكا للدولة وأساتذتها يتلقون منها رواتبهم فتقدم الشيخ خليل حسنين ببلاغ للنائب العام يوم 30 يونيو وأرسل شيخ الأزهر يوم 5 يونيو إلى النائب العام تقرير اللجنة التي شكلها الأزهر لدراسة الكتاب، وما أوصت به وكلف النائب العام رئيس النيابة محمد نور للتحقيق في البلاغات المقدمة ضد طه حسين ولم ينقذ طه حسين الا سفره لفرنسا فتأجل التحقيق لحين عودته.
في نفس الوقت تقدم النائب عبد الحميد بنان بطلب استجواب في البرلمان لوزير المعارف على الشمسى بشأن كتاب الدكتور طه حسين" في الشعر الجاهلى" ومحاضراته التي تدعو إلى الإلحاد وثارت مناقشات عاصفة إدارةا رئيس المجلس سعد زغلول الذي لم يخف رفضه للكتاب، وقد سبق أن صرح عدة مرات تعليقا على الكتاب أنه إذا كان "مجنون" يهذى في الشارع فما يضير العقلاء من ذلك وأن من فعل ذلك ليس إماما ولا زعيما حتى يهتم الناس برأيه "...
كان غالبية النواب ضد طه حسين إلا أن تلك الأزمة أظهرت معادن رجال وقفوا وهم قلة في وجه الهجمة على الجامعة وعلى حرية البحث والرأى فقال عباس العقاد رغم أنه وفدى" أن هزيمة الفكر في هذه الأزمة سيعقبة افتئات رجال الحكم على أصحاب الأقلام" وطالب وزير المعارف مجلس النواب "أن تكون الجامعة معهدا طلقا للبحث العلمى الصحيح وألا يحكم على أعمال أساتذتها الا النقاد" وانضم إلى هؤلاء عبد الخالق ثروت والدكتور أحمد ماهر وكتلة الأحرار الدستوريين، وعلى رأسهم أحمد لطفى السيد لكن الغضب كان عارمًا وارتفع حد المزايدات إلى المطالبة بحرق الكتاب في ميدان عام وإعدام مؤلفه...
وللحديث بقية