الوجع في زمن الـ «فيس وتويتر»!
الكتمان أم البوح؟ أن تتألم في صمت، وتصبر على بلواك، وتتجرع مرارة همومك بمفردك، أم تفضل أن يشاركك الآخرون ما تشعر به.. تمامًا كما يفعل كثير منا الآن على مواقع التواصل الاجتماعي؟
لم أكن قد تجاوزت الثامنة من عمري، حينما تغيَّب أبي- رحمه الله- عن منزلنا قرابة أسبوعين.. ولما استفسرتُ من أمي- رحمها الله- نَفَتْ علمها بأسباب غيابه، أو بمكان وجوده؛ مكتفية بالإجابة التراثية التقليدية: «أبوك عنده شغل»، إلا أن وجهها كان يدل على عكس ما تحاول أن تخفيه عنا.
عاد أبي. لم يكن وجهه بنفس الوجه الذي ألفناه. عرفنا بعد ذلك أنه كان قد خضع لإجراء عملية جراحية، استلزمت بقاءه في المستشفى طيلة أسبوعين، وأنه لم يشأ أن يُخبر أحدًا بما كان يشعر به؛ حتى لا يُثقل على الآخرين.
«همومي كما أوزاري، أحملها وحدي». هكذا برَّر الوالد موقفه لأمي، التي يبدو أنها لم تقتنع بكلامه.. ولما كبرتُ وصار والدي صديقًا لي، أخبرني أن أحدًا من الناس حين تتكالب عليه المشكلات، وتحاصره الأزمات، وتزداد عليه الهموم، يتعفف أن يعرض على الآخرين أن يتقاسموا معه همومه، وآلامه، فيؤثر الابتعاد عن عيونهم؛ حتى لا يُزيد أوجاعهم.
«ألتمس للناس ألف عذر».. شعار أبي المفضل، فلم يكن يغضب من أحد لم يواسيه في حزنٍ، أو يُهنئه في فرح.. فـ«ربنا أعلم بظروف كل واحد»، كما كان يردد دوما عندما نخبره أن فلانًا لم يأتِ للعزاء في فقدان عزيز لدينا، أو لمشاركتنا مناسبة مفرحة لأحد من عائلتنا.
كبرتُ وكبرتْ بداخلي صورة ومأثورات أبي؛ وباتتْ مكونًا رئيسًا في شخصيتي، فتعاملتُ بها، واتخذتها منهجًا.. لدرجة أنني لم أُخبر أحدًا- إلا أقرب المقربين مني- عندما خضعت لإجراء عدة عمليات جراحية.. حتى عندما اخترعوا «فيس بوك» و«تويتر»، لم أفعل مثل ملايين «الفسابكة» الذين إذا مسَّهم فَرْحٌ أو قَرْحٌ كتبوا على حساباتهم الشخصية: أشعر بـ«الوحدة»، أو بـ«المرض»، أو بـ«التعاسة»، أو بـ«اليأس»، أو بـ«القرف».. إلخ.
ربما يظن البعض أنني أحد نشطاء حركة «أنت وحدك»، أو أحد المنتمين لـ«الحزب الوطني الانطوائي»، أو يفسر تصرفاتي على أنها دليل على عدم رغبيتي في مشاركة الآخرين أفراحهم وأتراحهم؛ واضعين أمامهم نماذج لبشرٍ حينما يتعرضون لأية أزمات يريدون من الآخرين مشاركتهم فيها، ويسرفون في مطاردة غيرهم؛ ليحملوا عنهم همومهم ومشكلاتهم، فإن لم يستجيبوا لهم بـ«زيارة»، أو بـ«مكالمة هاتفية»، أو بـ«لايك» أو بـ«كومنت»، تضجروا، وصبُّوا عليهم اللعنات، وربما يصل الأمر إلى حد القطيعة بينهما.
«الإنسان حيوان اجتماعي». هذه حقيقة لا يمكن لأحد إنكارها؛ لذا فنحن بحاجة إلى مَنْ يسمعنا وقت الضيق، ويخفف عنا آلام البعد ولوعة الفراق، ويصون أسرارنا، ويستر عوراتنا، ويُهدي إلينا عيوبنا، ويحفظ أمانة ما نبوح به، ويفهمنا إذا ما تحدثنا إليه..
لكن هل كل شخص يصلح لهذه المهمة؟ بالطبع لا.. فأنتَ مَنْ تصطفي صديقك الصدوق.. فلا تقترب من جميع الناس وتُحمِّلهم هموما فوق همومهم، وآلامًا فوق آلامهم.. فالبشر ليسوا سواء في هذه الصفات.. وكم من شخصٍ ضحوكٍ لا تفارق الابتسامة شفتيه يحمل بين جنبيه ما تنوء بحمله الجبال.. وكم من شخص عابس متجهم يحمل قلبًا قادرًا على احتواء كل آلام العالم.
رحم الله عمنا صلاح جاهين، حين قال:
يخرِب شيطانك يا جدع
إزاي بتضحَك عالوجع
وتقول مفيش
الدنيا كيف مبتِكسَركش
والبُعد كيف مبيوجَعَكش
وإزاي- برغم الخوف وكلاكيع البشر-
قادر تعيش!