الحقيقة الكبرى
هل لدى أي واحد منا شك في أن العمر قصير، والأجل محدد زمانا ومكانا؟ بالطبع لا.. لكن للأسف، تلاهى الحياة ومشاغلها كثيرة، لدرجة أن الإنسان ينسى -أو يتناسى- أن هناك لحظة سوف يودع فيها دنياه ويستقبل آخرته.. هذا على الرغم من أنه يرى بعضًا ممن كانوا يعيشون معه وكانوا يملأون الحياة نشاطًا وحركة وحيوية، قد طواهم الموت في لحظة، وشيعهم أقرباؤهم وأصدقاؤهم وأحبابهم بالبكاء والعويل إلى مثواهم قبــل الأخير.. ومن الملاحظ أن الحزن عادة يكون لفترة قصيرة، ثم نعود إلى ما كنا عليه.. هذه هي سنة الحياة، أن الكل سوف يذهب، ولن يبقى أحد، كما يقول المولى تعالى: "كل نفس ذائقة الموت" (آل عمران: ١٨٥)..
قيل لأحد الزعماء يومًا وقد تردد أن هناك محاولات لاغتياله: لم لا تتخذ لنفسك حراسًا؟ فقال: نعم الحارس الأجل.. وهو قول سديد ويدل على فهم دقيق لسنة الله في خلقه، فالذي يحدد الأجل هو الله تعالى.. يقول جل وعلا: "ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" (الأعراف: ٣٤).. ويقول أيضًا: "قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم" (آل عمران: ١٥٤). هذه هي الحقيقة الكبرى..
وقد أثر عن عمر (رضى الله عنه) أنه كان يلبس خاتمًا من حديد، نقشت عليه هذه العبارة: "كفى بالموت واعظًا يا عمر".. لكن، هل أعددنا أنفسنا لهذه اللحظة.. هل لدينا من الطاعات وفعل الخيرات ما يشفع لنا عند ربنا يوم القيامة؟ أم أننا سوف نأتي بسجل أسود مملوء ظلمًا وبهتانًا، أو طغيانًا وتجبرًا، أو عصيانًا وذنوبًا؟ لحظتها سوف نقف بين يدى الله ونحن نتصبب عرقًا، تملؤنا الحسرة والخجل، نتمنى العودة إلى الحياة الدنيا، لكن.. هيهات هيهات..
والحقيقة أن الحياة الدنيا هي دار ابتلاء وامتحان واختبار.. يقول تعالى: "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" (العنكبوت: ٢-٣).. ولا يختار الإنسان منا ابتلاءه، من حيث النوعية والطريقة والتوقيت.. فقد يكون الابتلاء في الصحة، أو المال، أو المنصب، أو الجاه، وكم من إنسان عاش في قصر منيف، وحوله الخدم والحشم، وكل ملذات الحياة، لكنه يشعر بضيق، وكأن القصر يطبق عليه بجدرانه..
أثر عن الصديق (رضى الله عنه) قوله: "لو أن لى قدم في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله، أي عقوبته".. وهو تعبير عن الخوف من التعرض لامتحان أو ابتلاء، فلا يكون قادرًا على اجتيازه، ومن ثم فهو لن يطمئن إلا بعد أن يدخل الجنة بكامل جسده.. وهذا فهم عميق، وعلى المرء أن يظل يقظًا وحذرًا، فقد يأتيه الموت بغتة دون أن يكون قد أعد من الطاعات وفعل الخيرات ما يضمن له الفلاح في الآخرة.. يقول جل وعلا: "فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون" (الأعراف: ٩٩)..
لذا أدعو الله سبحانه دائمًا أن يعافينا ويعفو عنا.. إن هناك من الرجال من صمدوا وثبتوا تحت سياط التعذيب داخل السجون، لكنهم فقدوا ثباتهم أمام محنة منصب، أو مال، أو زوجة، أو ولد.. والتاريخ مليء بالدروس والعظات والعبر..لذا، يجب على الإنسان ألا يركن إلى حوله وقوته، وأن يكون دائمًا وأبدا خائفا راجيا رحمة ربه وعفو مولاه، فالفتنة "لا تؤمن على حى"، و"يؤتى الحذر من مأمنه"، كما "أن الاطمئنان يورث الغفلة"، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون...