رئيس التحرير
عصام كامل

تجربتي في الزهد لا تعترف بها الحكومة


كانت الأنباء الواردة تؤكد أن غولًا جديدًا تم إطلاقه على الشارع المصري.. الأرز «اتجنن»، وأيضا الخضراوات، أما اللحوم والأسماك والدجاج فقد أصبحت ضيوفًا نادرة على موائد المصريين.. الأسر البسيطة استشعرت أن شبحًا سكن الديار، والأسر المتوسطة جهزت نفسها لإنفاق «تحويشة» العمر على كرم الضيافة في رمضان.. الياميش عملة نادرة.. قمر الدين أصبح صورة للمشاهدة فقط.. العصائر ضرب من الجنون.


اتخذت قرارًا يسري تطبيقه على نفسى.. أن أعاود الحياة مع رمضان وفق الأجندة الأصلية للشهر الكريم.. هو شهر الصيام.. إذن فالصيام فريضة بكل ما تحمله من مشتملات.. قاطعت اللحوم إلى غير رجعة، فلم تدخل بيتي، وهجرت الدجاج دون تفكير، حتى في مشاهدته على موائد المسلسلات، أما الأسماك مصدر دهشتي وسروري فإن الغياب عنها لن يكون نهاية العالم.. قاطعت الأسماك.

مرت أيام الشهر الكريم سعيدة هنيئة دون لحوم أو أسماك أو دجاج أو أية بروتينات حيوانية، ومع بدء صيام إخواننا الأقباط صيام الرسل، قاطعت الألبان أيضًا فلم يدخل بيتي كوب زبادي واحد.. عشت على الكشري والفول والخضراوات الطازجة المسلوقة، أكلت المسقعة دون بروتينات، وتعاطيت الطعمية الساخنة على الإفطار، وطعمت ألوانًا من السلطات الشهية دون ألم أو وجع أو لحظة فراق مؤلمة!!

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد عندما توسعت في الأمر، وقاطعت التكييف واستخدمت لمبة وحيدة موفرة للكهرباء اتساقًا مع ما تدعو إليه الدولة تخفيفًا عليها من الأعباء.. أعباء استيراد الغاز أو مشتقات البترول..في الأيام العادية أدمنت سقوط المياه على رأسي ثلاث مرات يوميًا.. مرة عند العودة من العمل.. مرة عند النوم.. مرة عند الاستيقاظ.. اختصرتها لمرة عند النوم ومرة عند الاستيقاظ مع الحرص الشديد على التدفق النادر للمياه.

في فترات القراءة ليلًا أقضيها على أباجورة عبقرية صغيرة جدا وعملية جدا تستطيع أن تقرأ عليها بتركيز شديد ودون إسراف في عداد الكهرباء، وفي الوضوء أستخدم كوبا أو زجاجة مياه بلاستيكية «مخرومة» من القاع.. الوضوء كله بكوبين صغيرين فقط.. أعددت دراسة مهمة حول طريقة غسل الأطباق بأقل قدر من المياه.. راجعت كل الحنفيات في المنزل.. صيانة دورية للسباكة.. وضعت كمية من الزلط في سيفون الحمام ليمتلأ بأقل قدر من المياه.. حقيقة لم أستطع أن أقاوم احتفالي بشهر رمضان، حيث اشتريت ذات مرة قطعة كنافة زنتها ربع كيلو عاشت معي أيامًا جميلة وقاومت الانتهاء وأبت أن تتركني فريسة للزهد كزائر جديد!!

اشتريت فلتر مياه ثلاثي الفلترة وهجرت المياه المعدنية.. كل شيء مضى كما خططت له ودون معاناة.. صحيح دعيت إلى حفلات إفطار غير أني قاومت الإحساس الحيواني بالتهام اللحوم وحافظت على معدتي، إلا من كل ما هو نباتي خالص.. تعافيت صحيًا وأصبحت أكثر خفة في الحركة والعمل ومع نجاح التجربة حاولت إقناع زملاء وأصدقاء، بعضهم تعاطف معي بالتشجيع دون اتخاذ خطوات إيجابية، وبعضهم استقبل تجربتي على نحو من السخرية، ومع ذلك شجعتني التجربة في التعميم، ومازلت أفكر مليا في إنقاذ الطيور والأسماك والحيوانات من نهمي لأن أكون حيوانًا بعض الوقت.

زهدي في الطعام حصدته خيرًا صحيًا، ووفرة في الميزانية، غير أن فاتورة الكهرباء والمياه تأبى أن تصدق أني عشت زاهدا، أي والله، لا يزال عداد الكهرباء على عاداته القديمة، أما عداد المياه فإنه ورغم أنه غير موجود فإن شركة المياه تصر على محاسبتي بنفس المنطق القديم، حتى أيقنت أن الحكومة لا تعترف بتجربتي في الزهد وأدركت أن الزهد نار والفواتير أيضًا!!
الجريدة الرسمية