يا لخجلنا منه يوم نلقاه!
عجيب هو الإنسان، غروره يخفى عنه ضعفه.. كما أن كبره يحجب عنه جهله بحقيقة أمره.. ولو أنه تواضع لخالقه ومولاه، لجعل الدنيا عند قدمه.. يقول تعالى: "يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك" (الانفطار: ٦).
كثيرة هي الذنوب والمعاصي التي نرتكبها، لكنه يسترنا.. كثيرة هي الأخطاء والخطايا التي تقع منا في حق الله وحق نبيه ورسوله، مع ذلك يعطينا ولا يحرمنا.. يا لخجلنا منه يوم نلقاه.. إن من أجمل ما قاله الإمام علي (رضى الله عنه): "إن أصل الدين هو معرفة الله"، أي معرفة أسمائه وصفاته، وجلاله وكماله، وأوامره ونواهيه.. هذه المعرفة تبعث حرارة الإيمان في نفسك، وتضيء بنور اليقين قلبك.. تزرع في نفسك القبول والرضا.. المهم أن ترضى عن الله حتى يرضى الله تعالى عنك.. إذا أويت إلى مضجعك وأنت راض عنه، فثق تماما أنه سبحانه راض عنك.
يقول ابن القيم (رحمه الله): "فمن رضى عن ربه رضى الله عنه، بل رضا العبد عن الله من نتاج رضا الله عنه، فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده: رضا قبله أوجب له أن يرضى عنه، ورضا بعده هو ثمرة رضاه عنه، ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العارفين، وحياة المحبين، ونعيم العابدين، وقرة عين المشتاقين" [مدارج السالكين ١٧٤/ ٢)]..
كان سفيان الثورى يوما عند رابعة.. قال: اللهم ارض عنا، فقالت: أما تستحى أن تسأله الرضا، وأنت غير راض عنه؟ فقال: أستغفر الله..وقد كان من دعائه (صلى الله عليه وسلم): "رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد (صلى الله عليه وسلم) نبيا ورسولا".. والرضا عن الله تعالى يتضمن رضاك بقضائه وقدره، فهذا من أصول الإيمان، كما جاء في الحديث: "وان تؤمن بالقدر، خيره وشره".. وأن تستقبل أي ابتلاء يصيبك بالصبر والثبات، يقول تعالى: "والذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون" (البقرة: ١٥٦)، وأن تحب ما ينالك من ربك ولو خالف هواك، وألا تخاصم أو تعاتب إلا في الله ولله، وأن تستغني بالله تعالى عمن سواه.
يقول الحق جل وعلا: "ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور" وفى المقابل، يقول سبحانه: "ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عنى إنه لفرح فخور"، وهكذا الإنسان.. لكن المولى تعالى يستثنى من هؤلاء فئة يقول عنها: "إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير" (هود: ٩- ١١). والحقيقة أن الحياة الدنيا دار ابتلاء.. ولا يختار الإنسان منا ابتلاءه، من حيث النوعية والطريقة والتوقيت..فقد يكون الابتلاء في الصحة، أو المال، أو المنصب، أو الجاه، وكم من إنسان عاش في قصر منيف، وحوله الخدم والحشم، وكل ملذات الحياة، لكنه يشعر بضيق، وكأن القصر يطبق عليه بجدرانه.
أثر عن الصديق (رضى الله عنه) قوله: "لو أن لى قدم في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله"..وهو تعبير عن الخوف من التعرض لامتحان أو ابتلاء، فلا يكون قادرا على اجتيازه، ومن ثم فهو لن يطمئن إلا بعد أن يدخل الجنة بكامل جسده..وهذا فهم عميق، وعلى المرء أن يظل يقظا وحذرا، فقد يأتيه الموت بغتة دون أن يكون قد أعد من الطاعات وفعل الخيرات ما يضمن له الفلاح في الآخرة.. يقول جل وعلا: "فلا يأمن مكر الله (أي عقوبته) إلا القوم الخاسرون" (الأعراف: ٩٩).