«فودة» يكشف زوار الغرفة 2133.. «المغير وعز» على رأس القائمة والشاطر يكتفي بمكالمة تليفون.. طالب «السيسي» بالاعتذار عن أخطاء «العسكري».. ووزير الدفاع يرد: «
«ثلاثة أشياء لا يمكن إخفاؤها: الشمس والقمر والحقيقة».. عبارة تعود لـ"بوذا" افتتح بها الإعلامي يسري فودة واحدًا من فصول كتابه، ومن الممكن التعامل مع العبارة ذاتها كونها قاعدة التزم بها "فودة" في كتابه «آخر كلام.. شهادة أمل في ثورة مصر».
في الحلقة السابقة كان الحديث في غالبيته منصبًا على الأيام الأولى بعد الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد حسني مبارك من الحكم، والترتيبات التي جرت بعد رحيل مبارك، والأدوار التي لعبتها جميع الأطراف في الداخل المصري أملًا في أن تقع تفاحة الثورة على رأسها، بينما تبقى بقية الرءوس في العراء تنتظر الفرج.
لقاءان ألقينا عليهما الضوء في الحلقة السابقة جمعا بين صاحب الكتاب، والرجل الأول في جمهورية مصر العربية، لقاء كان داخل جدران قصر الاتحادية، وهو اللقاء الأخير الذي قرر الكاتب بعده مقاطعة كل "لقاءات الرئيس"، ولقاء أول يمكن وصفه بمقابلة "جس النبض" التي تبعها لقاءان آخران، نتحدث عنها في الأسطر القليلة التالية.
البداية الدرامية للقاء الأول لم يتركها "فودة" تمر دون أن يؤكد أنها كانت نقطة فاصلة في حياته "المهنية والشخصية"، أما البداية فكتبها صاحب «آخر كلام» تحت عنوان «الحادث» وقال: «كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة بقليل مساء الأحد، الرابع والعشرين من مارس/ آذار عام 2013، عندما سمعت انفجارًا مكتومًا، وأحسست باختلال مفاجئ في اتزان السيارة التي كنت أقودها في طريقي إلى الغردقة، بإطار منفجر وسرعة تقترب من 180 كيلو مترا في الساعة. تسارعت الآن خلايا المخ، واتسعت العينان، وانتفضت حواس البقاء، فوجدت نفسي في معركة فُرضت عليَّ من دون مقدمات في محاولة لاستعادة السيطرة على دفة سيارة طاشت بي في كل اتجاه".
مصر في الغرفة 2133
التقرير الطبي الذي تحدث عما ترتب عن الحادثة أشار إلى أن "فودة" أصيب بـ"كسر صريح في عظمة الترقوة اليسرى وفي ضلعين من أضلاع القفص الصدري، إضافة إلى خدش خفيف بأسفل الفقرة الثانية من فقرات العمود الفقري و(هي فقرة الشنق).
حادثة سيارة "الجيب" التي منحها "فودة" اسم «عزيزة» جعلته طريح الفراش في الغرفة رقم 2133 بمستشفى دار الفؤاد، تلك الغرفة التي قال عنها: «من الساعات الأولى للصباح كل يوم إلى الساعات الأخيرة من الليل كل ليلة، تحولت الغرفة رقم 2133 إلى بوتقة ضمت أمامي من مصر بكل مكوناتها، شكلًا وموضوعًا، ضاع إحساسي بالألم وأنا أتفكر كل يوم في كل هذا الثراء الذي يجمعنا، فجأة تذوب لحظات الشك والإحباط في ثنايا أفق لا متناهٍ من اليقين والأمل بينما تتراكم المتناقضات، من وزير الداخلية إلى حركة 6 أبريل إلى عبد الرحمن عز، وأحمد المغير، من الكابتن أحمد شوبير إلى شباب بورسعيد إلى ألتراس أهلاوي، من المتحدث باسم القوات المسلحة، العقيد أحمد محمد على، إلى خالد عبد الفتاح ومنى سيف، من "سلفيو كوستا" إلى "سلفيو" مدينة الإنتاج الإعلامي، من نجم قناة قناة «الحافظ» د. عاطف عبد الرشيد، إلى الفنانة يسرا إلى أنشودة إسلامية تتمنى لى الشفاء، من خيرت الشاطر إلى حمدين صباحي إلى د. عبد المنعم أبو الفتوح، من مستشار المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين إلى ميرفت موسى".
تعداد الذين مروا على الغرفة 2133 لم يكن من قبيل التباهي بـ"النجومية" التي يتمتع بها ساكنها، لكنها كانت مجرد مدخل استخدمه ليكشف تفاصيل الحوارات التي دارت داخل الغرفة، والأطراف التي لم يكن يأتي في مخيلة أحد أن تجمتع في مكان واحد، ليس هذا فحسب، لكنه كان سببًا في أن يكون هناك لقاء ثانٍ يجمع "فودة" والفريق أول عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع والإنتاج الحربي وقتها، حيث قال: "ذات مساء، بينما كنت طريح الفراش في المستشفى رد أحد الزملاء على هاتفه المحمول، ثم انتفض إلى زاوية الغرفة، ثم عاد بعينين مشدوهتين وكف تُحكم السيطرة على ميكرفون الهاتف وصوت مكالمة تليفون من الرجل الذي يحكم مصر.
هامس: "المهندس خيرت الشاطر!.. أقول إيه؟"، مددت يدي على الفور وتناولت الهاتف، "السلام عليكم يا أخ يسري، شفاك الله وعافاك". كانت تلك أول مرة – وآخر مرة حتى الآن - التي يجمعني فيها اتصال مباشر بالرجل الذي لم يعد عندئذ شك لدى كثيرين في أنه العنوان الرئيس للجماعة التي تحكم مصر، كان اتصالًا مقتضبًا لم يحمل سوى أمنيات طيبة، وكان مجرد الفعل في حد ذاته أهم من المحتوى، تعلقت عيون زملائي بملامح وجهي وأنا أضع الهاتف جانبًا بعد انتهاء الاتصال في محاولة لقراءة أفكاري: "استجدعته".. هكذا شعرت، وهكذا قلت لهم، وهكذا سأقول دائما.. ولا يحكم على النوايا إلا الله.
أزمة في «دار الفؤاد» بسبب "المغير وعز"
ويكمل "فودة" حديثه عن زوار الغرفة 2133 بقوله: بعد ذلك، لم تخل غرفتي من الزملاء والأصدقاء والزوار على مدى أربع وعشرين ساعة من اليوم كل يوم، أوفد الرئيس محمد مرسي أحد مستشاريه، مثلما أوفد المرشد العام لجماعة الإخوان، الدكتور محمد بديع أحد مستشاريه، وبعد قليل فاجئني هذا الأخير عندما وقف إلى جانب السرير ومال ناحيتى وأراح كفه على جبهتى وهو يرقيني بأدعية وبآيات من القرآن الكريم. لاحظت استغرابا وشيئا من التوجس في نظرات زملائي وبخاصة هؤلاء من غير أبناء الأرياف الأكثر ألفة مع ذلك، ثم أوفد حسن مالك، وهو أحد أبرز الوجوه التي تبدو دائما أكثر سماحة في الجماعة أحد أبنائه معتذرًا عن عدم الحضور بنفسه لظروف مرضه، قبل أن تتملك المفاجأة من زملائي الذين كانوا يستقبلون الورد والزوار في الطابق الأرضي، هرول أحدهم إلى أعلى كي يقول: "تصدق مين هنا وعايز يشوفك؟! عبد الرحمن عز وأحمد المغير!".
هممت بالمواقفة لكنه استطرد: "قلت لهم لأ طبعًا، هو تعبان والزيارة ممنوعة"، نظرتُ إلى بقية زملائي الذين تملكتهم الدهشة فنظروا جميعًا إليَّ، واجتمعوا سريعًا على هذا القول: "طبعًا لأ، إنت تعبان والزيارة ممنوعة"، لدهشتهم، بناء على رغبتي وحدي، كان عز والمغير بعد قليل يقفان فوق رأسي إلى جوار السرير، وكان هذا المشهد غريبًا باعثًا على كثير من التفكير، وهو لا يخلو من مفارقة.
قمة المفارقة في التعايش السلمي وفي قبول الآخر وفي دولة القانون باسم الوطن، أمام قمة النزعة نحو العنف الجسدي ونفي الآخر ونحو سلطان السمع والطاعة باسم الدين.
بلغ القلق بزملائي حدًّا دعا بعضهم إلى اتخاذ وضع المراقبة اللصيقة والتدخل السريع إذا ما صدرت أي إشارة من أي منهما يمكن أن تخرج عن حدود اللياقة، تعلق نظرات زملائي بأيدي الزوار وبأجسادهم، بينما تعلقت نظراتي أنا بأعينهم، رحبت بهم ترحيبًا شديدًا ولم يكن لديهما سوى ما بدا، أمنيات طيبة لم أسمعها جيدًا وسط سيل غامر من الأفكار، لم أسمح لعيني بمرافقة أعينهما.. حدقت في عينى كل منهما على حدة قبل أن أنتقل إلى عيني الآخر.. ثم حدقت فيهما طويلًا، لحظات من الصمت تختزل الكلمات.. متناهية القصر أمام الآخرين، لا نهاية لها في إحساس عينين انغلقتا على عينين، كأنها جولة مرهقة في معركة إرادة تمسكًا بمعتقد.. بعد قليل انكسرت عينا أحمد المغير وقد لمحت فيهما قبيل انكسارهما طيفًا من الإنسانية، لكن عيني عبد الرحمن عز بقيتا هناك، مفعمتين بخواء لا نهاية له، وغور لم أستطع أن أسبره".
"فودة" في الأمانة العامة
«وظيفة الإعلام الحر ليست تسهيل مهمة من يحكمون، بل تصعيبها دائمًا عن طريق الحذر من كيفية ممارستهم للسلطة التي يقبضون عليها باسم الشعب».
فقرة اختارها "فودة" ليضعها تحت عنوان «موعد مع الفريق أول السيسي»، وتحدث عن تفاصيل الترتيب للقاء الذي أراد منه تسديد فاتورة الطائرة التي أقلته إلى مستشفى دار الفؤاد، بعدما فشلت جميع محاولاته في تحقيق الأمر، ولم يجد بدًّا من لقاء السيسي.
تفاصيل ما قبل الوصول إلى مكتب "القائد العام"، بروتوكول تحدث عنه "فودة" الذي أصر على أن يكون برفقته صديقه ألبرت شفيق، رئيس قنوات «أون تي في» آنذاك، لأسباب عدة منها أن الحالة الصحية لـ"فودة" لم تكن تسمح له أن يتحرك منفردًا، هذا بجانب اعتياده على اصطحاب شاهد معه في هذه النوعية من اللقاءات.
بعد انتهائه من تفاصيل استقباله في الأمانة العامة، يسرد "فودة" تفاصيل الحديث الذي جمعه والفريق أول عبد الفتاح السيسي، ويقول: بدأت الحديث بتوجيه الشكر للوزير على أوامره بإرسال طائرة إسعاف لنقلي من مكان الحادث وأنا لا علم وقتها بما كان يحدث: "لا شكر على واجب، أنت رجل وطني تستحق وأكثر"، هكذا بدأ السيسي كلامه مبتسمًا وهو يغير مجرى الحديث بين السؤال عن حالتي الآن ومتى يمكن أن أعود إلى العمل من ناحية، ومن ناحية أخرى عن تفاصيل الحادث المثير في حد ذاته.
ـ "انسى حكاية الطيارة يا أستاذ يسري"
بعد هذا، قصصت عليه تفاصيل الحادث وهو في حالة إنصات كأنما يشاهد فيلمًا بوليسًيا، ثم سأل فجأة: "هل تعتقد فعلًا أن المسألة كانت مجرد حادث؟"، فأجبت من دون تردد: "نعم، أنا المذنب لأنني كنت أقود بسرعة جنونية، وهذا قضاء الله وقدره"، ولكن كان يمكن أن يكون الأمر أسوأ، كما قلت له وأنا أحاول أن أعود بالحديث إلى ما أتيت من أجله، لولا "ولاد الحلال" في موقع الحادث، ولولا التعامل الفوري في مستشفى الجونة، ولولا طائرة الإسعاف.
ـ خلاص، انسى موضوع الطيارة ده.
ـ بعد إذنك، أنا بأطلب من حضرتك رسميًا إني أرد تكلفة الطائرة عشان غيري يستفيد منها.
ـ غيرك بيستفيد منها من غير ما تردها يا أستاذ يسري، إنت فاكر إنك لوحدك؟ إحنا بننقل ناس كتير، مش بس كده، لأ، وبنعالج ناس كتير من ولاد مصر الطيبين جوه البلد وبره البلد.. بس ما بنقولش.
ـ ده شيء يسعدني، وياريت يكون بيتطبق على الجميع، بس أنا الحمد لله أموري مستورة ومبسوط ودافع تأمين دولي على حسابي الشخصي ومش محتاج.
بالجملة الأخيرة تغيرت ملامح الحوار والمتحدثين، حيث يقول "فودة": هنا تراجعت الابتسامة وغلبت على وجهه جدية مفاجئة وعلى كلماته نبرة حازمة: "خلاص الموضوع ده انتهى ومش عايز أسمع فيه ولا كلمة تاني".
تنحنح ألبرت، وسادت على الحضور لحظة من الصمت بدت ثقيلة، ولم يكن من معين داخلي على تحملها سوى ما كنت أعده في نفسي مسبقًا من بديل.
"كان قد مر علينا لدى تلك النقطة أكثر من نصف ساعة، وهو ضعف ما كنت أتوقع أن تلك المناسبة في تلك الظروف كانت تسمح به في زيارة من هذا النوع، ومن ثم كنت أنتظر لديها انسحابًا كريمًا مع تمنيات بالصحة والتوفيق، لولا أن الرجل الذي كان كثير من العيون ترنو إليه في تلك الآونة ـ استنجادًا أو اتقاءً أو توجسًا ـ قد قرر أن الوقت لم يحن بعد، فأخذ بين يديه زمام المبادرة وفتح بابًا كبيرًا.
ـ إيه رأيك في وضع البلد دلوقت؟
ـ سيئ، بس واضح أن حضرتك بذلت مجهود كبير في الدايرة المباشرة بتاعتك.
ـ إزاي يعني؟ وإيه اللي عرفك؟
ـ واضح يعني لكل الناس إن الروح المعنوية للجيش اتأثرت كتير بعد فترة المجلس العسكري، وإنك قدرت ترفعها كتير في فترة قياسية، إزاي ما اعرفش.. حضرتك اللي ممكن تقول لنا عملت إيه.
ـ أبدًا.. أنا دايمًا صريح مع الناس، ودايمًا بأقول إن مصر محتاجانا كلنا، ولازم الجيش والشعب يكونوا مع بعض.. الجيش اتحمل كتير قوي.
ـ والشعب اتحمل أكتر والله.
ـ والشعب كمان طبعًا.. طيب رأيك إيه المفروض يحصل دلوقت؟
ـ زي ما رفعت معنويات الجيش لازم الشعب تترفع معنوياته هو كمان بطريقة ما.
ـ إزاي يعني؟
ـ تعتذر.
ـ إيه؟
ـ تعتذر.
وقعت هذه الكلمة على أذنَي وزير الدفاع وقعًا ثقيلًا إلى حد أنه احتاج إلى تأكيد لم أتردد أن أمنحه إياه، بينما سيطر على هيئته خليط من الاستفهام والاستغراب قبل أن يرد.
ـ أعتذر عن إيه بالظبط؟
ـ تعتذر عن اللي حصل أيام إدارة المجلس العسكري شئون البلاد.
مرة أخرى رانت لحظة الصمت الثقيلة علينا جميعًا.. كانت في الواقع مخاضًا لبيت القصيد.
"ما صدقت ألم الأمور.. ما أقدرش دلوقتي"..
بوصولنا إلى تلك النقطة مما بدا أنه يتحول إلى حوار أكثر صدقًا ومباشرة، وضع اللواء عباس كامل قلمه جانبًا وتململ الزميل ألبرت شفيق في مقعده، بينما شخص الفريق أول عبد الفتاح السيسي بناظريه إلى.. إلى اللاشيء في الواقع.. مكتسيًا وجهه هذه المرة بابتسامة غريبة وهو يستجمع أفكاره قبل أن يقرر من أين يبدأ، ثم بلهجة بطيئة حازمة في طبقة من الصوت بين الجهر والهمس انطلقت كلماته واضحة متقطعة وقد مال قليلًا للأمام.
ـ شوف يا أستاذ يسري، إحنا قعدنا خُمسميت يوم في الشارع، ناكل في الشارع، نشرب في الشارع، نحلق دقننا في الشارع، نروح الحمام في الشارع، وكل يوم يجيلنا عيال يحدفونا بالطوب ويشتمونا بأبونا وأمنا.. هو ده الأدب؟ إحنا شيلنا كتير.
ـ صحيح، و"العيال" دول هم كمان قعدوا أكتر من خمسميت يوم في الشارع، يتخنقوا بالغاز في الشارع، وينضربوا بالخرطوش في الشارع، وينطخُّوا بالرصاص في الشارع، ويندهسوا بالمدرعات في الشارع، ويتعروا في الشارع، وينسحلوا في الشارع، ويتعملُّهم كشف عذرية في الشارع.
هنا حاول الزميل ألبرت نزع فتيل ما يمكن أن يكون انفجاًرا، وإن كان مهذبًا، فطفق يقول شيئًا لا أذكره تمامًا بلهجة لطيفة مازحة، لولا أن الوزير قفز مباشرة مستكملًا حديثه: "صحيح.. صحيح.. صحيح.. حصلت أخطاء طبعا و..".
وقبل أن يستكمل حديثه قفزت أنا على حديثه.
ـ أخطاااااء، هو ده.. هو ده.. اطلع قول للناس حصلت أخطاء ومش هيحصل تاني، وجل من لا يخطئ، واللي غلط من أي ناحية يتحاسب.
ـ ماقدرش..
ـ يا سيادة الوزير.. صدقني، هتفرق كتير قوى مع الناس، هتفرق كتير قوي معانا كلنا.
ـ ماقدرش، ماقدرش دلوقي، أنا ما صدقت ألم الأمور.
الحلقة المقبلة:
• كواليس حلقة «أنا قتلت واتقتلت».
• نص مكالمات يسري فودة مع قيادات «المجلس العسكري».
• «اللهم بلغنا يونيو».. تدوينة التنبؤ بالثورة الثانية.