رئيس التحرير
عصام كامل

وصف مصر في رمضان


يمكن لأى محلل اجتماعى مدقق أن يرسم للمجتمع المصرى، بمختلف طرائفه وحلقاته المهنية، أشد دقة من الوصف الذي تركه لنا علماء الحملة الفرنسية، وأحرقه المعلم دومه وشركاه، في واقعة المجمع العلمى المأساوية الشهيرة، بثقة وبطمأنينة نقول إنه يوجد في مصر رمضانان. وشعبان.. شعبان لا أقصد الشهر، بل الشعب المصري النسخة الأخرى، رمضان للصيام والعبادة في الأساس، ورمضان الفجعة والأنتخة والتخمة والشيشة والمسلسلات.


وعلى أرض مصر، ومع رمضان الفجعة، يظهر الشعبان، شعب يذهب إلى صلاة التراويح، وبعدها يستأنف مسراته وحماقاته الصغيرة، وشعب آخر مصلوب أمام شاشة تليفزيون، تفرسه وتنقطه، أي تصيبه بجلطة.

مصر الحقيقية في إعلاناتها، مصر غنية ومصر فقيرة، مصر تتبرع ومصر تتسول.

كمية من إعلانات الفيللات والمجتمعات السكنية المغلقة، ذات البحار والبحيرات الصناعية، وفيها وجوه مصرية نضرة، طازجة وأساليب حياة حديثة، ونماذج مهنية متباينة، انعكست بأفضل صورة في مسلسل يسرا "فوق مستوى الشبهات"، ولا أتحدث عن الجريمة الاستايل فيها، جريمة النخبة، ومن ناحية أخرى سترى مصر المريضة بالسرطان ومصر المريضة بالكبد ومصر المريضة بالكلى، ومصر المريضة بالجوع والفقر.

من ناحية ثالثة، سترى مصر الملهوفة على السمن البلدي وعلى الزيت وعلى السمن المهدرج، وغير المهدرج، وفي الثنايا من هذا كله، ستطل عليك مصر الرغاية متمثلة في شركات الاتصالات، قد أطلقت حملاتها الإعلانية لترسيخ فكرة التواصل ولمة العائلة، بينما أدى تفشي هذه الشركات وعروضها المتزايدة، إلى انقطاع حبل التواصل الحى والحوار داخل الأسرة الواحدة، بل أدى إلى التهام ميزانية البيت، وكل ولد معه جهاز وخط وخطان، والفلوس ذهبت أدراج جيوب الفنانين، والشركات والمعلنين، مصر تتغنى بكمباونداتها ونجومها، وفي الفواصل تشحت من الأغنياء لتطعم الفقراء.

تكثيف الفوارق الاجتماعية، على هذا النحو الصارخ، يجعل مجال المقارنة والمباينة واضحًا لمحدودى الحلم والدخل واللقمة، ويجعل السخط هو الفكرة المسيطرة، لابد بطبيعة الحال من الإعلان كأحد مكونات المزيج التسويقي، ولدوران عجلة البناء، لكن البناء مركز على ما يسكنه الأغنياء، وهذا التركيز سيدفع الأغنياء ثمنه، غلا وحقدا ومكائد، فلا أقل من بعض التواضع، ولا أقل من تغيير جوهرى في مفهوم الربحية والمسئولية الاجتماعية.

وكما قلتها فيما قبل خمسة وعشرين يناير ووجهتها للحزب الوطنى، سأقولها مرة أخرى: شيء من الدم قبل أن يراق الدم، الناس مكتومة وستنفجر، ولا يجوز أن تقوم الدولة بكل شيء وأن تجتهد في توفير الغذاء والمسكن، بينما يواصل التجار تسخيط الشعب، من خلال رفع الأسعار، ومن خلال التباهى بما يملكونه، والحفلات الصاخبة في الأفراح، بل فى الأتراح.

ولا يجوز قط أن يخصص منصور عامر وغير عامر من البنائيين الجدد أموالهم ليبنوا القصور لمن جمع مالا يعلم الله من أين جمعه، فالفيللا بعشرة وعشرين وخمسين مليونا، والواحد طفح الدم في عمره المهنى وبالكاد سدد ثمن شقته بعد خمسة وعشرين سنة.

ابنوا للطبقة المتوسطة، فإنكم تذبحونها، وتدفنونها حية، وهى العمود الفقرى للمجتمع، وبدونها، يصبح المجتمع المصرى مجرد نسيج متهلهل من الرعاع واللصوص، فيهم أغنياء مسهم الشرف !
الجريدة الرسمية