رئيس التحرير
عصام كامل

الحلال والحرام.. الدين المعاملة (2)


في المقال السابق قلنا إن الحلال والحرام في العبادات معلوم للكافة، ولكن على الناس أن يعوا تفاصيل الحلال والحرام في المعاملات والتصرفات مع غيرهم من العباد.


الانفصام الحاد بين العقائد والتصرفات صار سمة غالبة في الوقت الراهن، والاهتمام بالمظاهر التعبدية غطى تماما على الجوهر، وعلى الأخلاقيات التي حث عليها الإسلام.. فأصبح أمرا معتادا أن ترى أصحاب اللحى، والجلابيب البيضاء القصيرة يحرصون على أداء الصلوات في المساجد ومع الجماعات، بل حفظ القرآن الكريم ليتمكنوا من إمامة المصلين، ويكثرون من الحج والعمرة، ويتباهون بأنهم ضربوا أرقاما قياسية في السفر للأراضي المقدسة؛ ظنا منهم أنهم سيكونون في الفردوس الأعلى لذلك السبب.

صعد ﺍﻟﺸﻴﺦ عبد ﺍﻟﻘﺎﺩﺭ ﺍﻟجيلاني "رضي ﺍﻟﻠﻪ عنه" ﺍﻟﻤﻨﺒﺮ، ﻭﻗﺎﻝ: "ﻟﻘﻤﺔ ﻓﻲ بطن ﺟﺎﺋﻊ ﺧﻴﺮ ﻣﻦ بناء ﺃلف ﺟﺎﻣﻊ.. ﻭﺧﻴﺮ ﻣﻤﻦ ﻛﺴﺎ ﺍﻟﻜﻌﺒﺔ ﻭﺃﻟﺒﺴﻬﺎ ﺍﻟﺒﺮﺍﻗﻊ.. ﻭﺧﻴﺮ ﻣﻤﻦ ﻗﺎﻡ ﻟﻠﻪ ﺭﺍﻛﻊ.. ﻭﺧﻴﺮ ﻣﻤﻦ ﺟﺎهد اﻠﻜﻔﺮ ﺑﺴﻴﻒ ﻣﻬﻨد ﻗﺎطﻊ.. ﻭﺧﻴﺮ ﻣﻤﻦ ﺻﺎﻡ الدﻫﺮ ﻭﺍﻟﺤﺮ ﻭﺍﻗﻊ.. ﻭﺇﺫﺍ ﻧﺰﻝ ﺍلدﻗﻴق ﻓﻲ بطﻦ ﺟﺎﺋﻊ.. ﻟﻪ ﻧﻮﺭ ﻛﻨﻮﺭ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺳﺎطﻊ".. اختزلها الرجل في كلمات قليلة، ومعان بسيطة.. فيا ليتنا وعينا وفهمنا.

أشاهد يوميا العاملين بأحد محال بيع الحلويات الضخمة في وسط القاهرة، وغالبيتهم من الملتحين، إذا أذّن المؤذن يتوقفون عن البيع والتعامل مع الجمهور، ويصطفون لأداء الصلاة في جماعة، وتسمع الإذاعات ترتل القرآن الكريم في جنبات المعارض.. لكنهم مع ذلك يحتلون الرصيف المحيط بالمعارض بالفاترينات، وفي وسط النهار يقوم بعضهم برش الشارع بالمياه المخصصة للشرب، ويضعون حواجز أسمنتية وحديدية لمنع السيارات من الانتظار أمام المعارض والمحال!

هذه تصرفات خاطئة، وسلوكيات غير سليمة، ويعاقب القانون عليها، فإهدار المياه، ووضع الحواجز، واحتلال الرصيف.. كلها أفعال مجرمة قانونا، وشرعا، ولكن لا أحد يلتفت إلى ذلك؛ معتقدين أن المظاهر الإيمانية تجب كل ما عداها، رغم أن كل العبادات بين الرد والقبول، كما تقول القاعدة الإسلامية المعروفة.

وظاهرة الغش في الامتحانات التي عايناها جميعا مؤخرا، وتفشي الفساد والرشوة، واستغلال النفوذ كلها وجوه لكارثة فصل الدين عن الحياة اليومية، التركيز على المظهر دون الجوهر، واعتبار العبادات "حصالة" للحسنات، دون إدراك لحقيقة أن "الدين المعاملة"..، "لا يدخل أحدكم الجنة بعمله... إلا أن يتغمدني الله برحمته".. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "بينا رجل بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا، فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى (التراب) من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له".. و"اتقوا النار ولو بشق تمرة".

الهوس بالجنة وفوبيا النار من مخلفات الفكر الوهابي، الذي يبعث على التباهي بالحسنات، والتفاخر بالعبادات، ونسيان المعاملات، وتجاهل السلوكيات، ونبذ البر، الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بأنه "حسن الخلق".
الجريدة الرسمية