حسام خضرا يكتب: «فلسطين.. من مشروع وطن إلى صفقات تجارية مربحة»
لن أتحدث عن إسرائيل وما تقوم به من مجازر وإرهاب بحق الفلسطينيين، فإسرائيل بالنهاية عدو، ومن المؤكد ألا ينتظر الإنسان من عدوه أن يرميه بالورود والأرز. يقودني هذا الحديث إلى رسم وفهم الطبيعة الكاملة للأحداث والشخوص والسياق التاريخي والسياسي والاجتماعي للصراع «الفلسطيني-الفلسطيني».
سوف أختصر المراحل التي مرت بها القضية الفلسطينية وأتحدث عن العقد الأخير، الذي شهد زخمًا كبيرًا من الأحداث التي يمكن أن نعتبر أنها ساهمت في الانحدار الذي شهدته القضية على كافة المستويات.
بدأت الأحداث داخل الأراضي الفلسطينية تتجه إلى درجة أشد سوءًا بعد وفاة الزعيم ياسر عرفات في نوفمبر/ تشرين الثاني 2004، وإمساك محمود عباس بزمام الأمور داخل الأراضي الفلسطينية. عباس الذي يسير على نهج المفاوضات ونبذ العنف بكافة أشكاله لم ينجح في أن يسيطر على خيوط الفصائل الفلسطينية الكثيرة والمتشعبة، الأمر الذي خلق منه عدوًا لكثير من الفصائل خاصة حركة «حماس»، التي حاولت اغتياله عام 2007 من خلال نفق مفخخ أعد خصيصا لتفجير موكب عباس حال دخوله قطاع غزة من معبر «إيريز» شمال القطاع.
وازداد مستوى انحدار القضية الفلسطينية بشكل مأساوي بعد فوز حركة «حماس»، في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في يناير/ كانون الثاني 2006، وسقوط حركة «فتح»، التي كانت تسيطر على كافة مؤسسات ومفاصل السلطة، لتبدأ مرحلة جديدة من «الانتقام الداخلي».
حماس التي يزعم قادتها أنهم تعرضوا للتعذيب والاضطهاد من قبل السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، كان أول أهدافها بعد حصولها على أغلبية مقاعد البرلمان هو «الانتقام». وتم ذلك من خلال عمليات اغتيال منظمة لبعض القيادات والعناصر الأمنية في السلطة الفلسطينية وحركة فتح، إلى جانب هجمات ممنهجة على المقار والمراكز الأمنية، في محاولة لكسر شوكة السلطة الفلسطينية وإثبات من هو الفصيل الأقوى على الساحة الفلسطينية، خاصة في قطاع غزة.
وبعد الانقلاب العسكري الذي قامت به حماس في يونيو/ حزيران، ضد السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، وسيطرتها على كافة مفاصل القطاع، بدأ الدعم العربي للقضية الفلسطينية يتلاشى على كافة المستويات، فكيف يقدمون دعما لفصائل فلسطينية فقدت بوصلتها في تحرير الأرض الفلسطينية وتفرغت لقتال بعضها بعضا. وأغلقت مصر «معبر رفح»، الذي يعتبر المنفذ الوحيد من وإلى قطاع غزة، نظرًا لأن معبر رفح محكوم باتفاق وقعته السلطة الفلسطينية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2005، وحين سيطرت حماس على القطاع ونشرت عناصرها بأسلحتهم على الجانب الفلسطيني من المعبر، حق لمصر أن تعتبر ذلك خرقًا لبنود ذلك الاتفاق، وأن تغلق المعبر، غير أن السلطات المصرية تقوم بفتحه بين الحين والآخر لإدخال الطلبة وأصحاب الإقامات والمرضى والمساعدات الإنسانية.
وبدأت حماس تقتنع داخليًا بأن القضية الفلسطينية قد انهارت ولا جدوى من التراجع عن الانقلاب وتحقيق المصالحة، لأن ذلك يعني سقوط الحركة إلى الأبد، خاصة بعد أن كشفت الحركة عن وجهها الحقيقي الذي كانت تخفيه بعباءة «المقاومة الإسلامية»، إلى جانب أنها قتلت عشرات الفلسطينيين واعتقلت المئات منهم أيضا، ولنذكر أيضًا أن حماس بعد انقلابها سيطرت على كافة الأسلحة التي كانت بحوزة السلطة الفلسطينية، وقامت أيضا بشن حملات عسكرية لجمع الأسلحة الموجودة في غزة، خاصة الأسلحة التي كانت تملكها فصائل لا تكن الولاء لحماس.
- حروب إسرائيل على غزة 2008-2012-2014
جاءت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة نهاية عام 2008، لتكون خير دليل على ما سبق، حيث كان اهتمام الفلسطينيين خلال فترة الحرب منصبًا باتجاه إمكانية سقوط حركة «حماس»، لكن حماس تداركت الوضع وبدأت بتكثيف عمليات القمع ضد الفلسطينيين، فكانت طائرات الاحتلال تقصف مدارس الأمم المتحدة التي يحتمي بها المدنيين، بينما كان عناصر «حماس»، يخطفون ويعتدون على الأشخاص المشكوك في نواياهم وانتمائهم الحزبي، إلى جانب بث الرعب في نفوس الفلسطينيين من خلال عمليات الإعدام الميدانية التي نفذتها حماس في شوارع القطاع على مرآى ومسمع من الناس، بذريعة العمالة للاحتلال، علمًا أن غالبية الأشخاص الذين أعدمتهم حماس، كانوا يقبعون في السجون مدة لا بأس بها.
وبما أننا نتحدث في عمليات الإعدام، لنقل أن حماس كانت تقوم بعمليات الإعدام تلك ومن ثم تقوم بالتشهير بالأشخاص الذين تم إعدامهم من خلال كتابة أسمائهم وبث اعترافاتهم ووصل الأمر إلى التمثيل بأحدهم بعد قتله وسحله في شوارع القطاع، مما كان له بالغ الأثر في تفكيك النسيج الاجتماعي الداخلي بشكل أكبر مما هو عليه، فكلمة «عميل» في قطاع غزة تعني، أن العار سيلاحقك وعائلتك وكل من يمت لك بصلة فوق الأرض وبعد الممات. أما حين كان يتعلق الأمر باكتشاف «حماس» لأعداد لا بأس بها من العملاء في صفوفها، كانت عمليات الإعدام تتم بصمت بالغ مع إعطاء العميل بعد إعدامه صفة «الشهيد المجاهد»، وتقام له جنازة وعزاء بحضور قيادات الحركة، كما فعلت حماس مع أحد قيادييها خلال حرب عام 2014 في غزة.
وباتت القناعة الراسخة لدى غالبية الفلسطينيين أن الجندي الإسرائيلي «جلعاد شاليط»، الذي أسرته حركة حماس وكان سببًا رئيسيًا لاندلاع حرب 2008، قد كلف الفلسطينيين ثمنًا مقابل تحرير نحو ألف أسير فلسطيني من سجون الاحتلال، وفي مقابل صفقة الأسرى بين حماس وإسرائيل قتل آلاف الفلسطينيين خلال الحرب ودمرت البنية التحتية للقطاع بشكل شبه كامل، كما دمرت آلاف المنازل، واعتقلت إسرائيل مئات الفلسطينيين، ناهيك عن العدد المأساوي من حالات الإعاقة الجزئية والكلية. وحين كان بإمكان حماس أن تجنب الفلسطينيين في غزة وقوع مزيد من الخسائر، آثرت أن تجر الشارع الفلسطيني إلى حربين متتاليتين في عامي 2012 و2014.
كما تعمدت حماس أن تطلق على تلك الحروب أسماء قد يشعر من يسمعها أن عناصر حماس على وشك تحرير مدينة القدس المحتلة، لكن الحقيقة كانت مغايرة على الأرض، فمنازل المدنيين كانت الهدف الأساسي لطائرات الاحتلال بذريعة أن الأنفاق التي دشنتها حماس في كافة أرجاء القطاع، تتخذ من أسفل تلك المنازل ممرات دون علم ساكنيها.
- الشباب الفلسطيني بات مقتنعا بضرورة «هدم المعبد»
بدأ تفكير غالبية الشباب الفلسطيني ينفتح شيئًا فشيئًا على أفكار جديدة، حيث بدءوا بتطهير أنفسهم من فكرة الحزبية المقيتة وبات جل اهتمامهم التعليم والحصول على شهادات عليا، على الرغم من عدم توفر فرص عمل إلا للعناصر الناشطة في الفصائل الفلسطينية البارزة على الساحة. كما باتوا مقتنعين بأن الحل الأمثل للقضية لن يأتي إلا من خلال «هدم المعبد السياسي» وإسقاط كافة الفصائل الفلسطينية التي تجذر فيها الفساد على مدى السنوات الماضية، خاصة وأن غالبية الدول التي تمول تلك الفصائل ترتبط بعلاقات وثيقة مع إسرائيل.
وحين انتهت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة عام 2014، بدأت الدول المانحة تحاول جمع التمويل اللازم لإعادة إعمار القطاع الذي دمر عن بكرة أبيه، وتم أكتوبر/ تشرين الأول 2014، عقد مؤتمر للمانحين في القاهرة، وخرج المؤتمر بجمع المبلغ المطلوب لإعادة الإعمار، وكانت مخرجات المؤتمر تنص على أن تولى الأمم المتحدة عمليات إعادة الإعمار، لكن حماس رفضت الآليات التي وضعتها الأمم المتحدة وأصرت على أن تتم عمليات إعادة الإعمار من خلالها. وبذلك توقفت عجلة الإعمار.
ومن ثم بدأت الأمم المتحدة تحاول إحداث اختراق في ملف الإعمار، وقامت بالتوسط لإدخال كميات من الأسمنت اللازم للإعمار إلى قطاع غزة من خلال معبر «كرم أبو سالم» الذي يسيطر عليه الاحتلال الإسرائيلي. لكن الأمر لم يكتمل حيث منعت إسرائيل إدخال الأسمنت إلى غزة بسبب قيام حماس بالاستيلاء على كميات كبيرة منه بهدف إعادة بناء شبكة الأنفاق التي تضررت خلال الحرب.
ومع توافر كل تلك الظروف بدأت الحسابات الداخلية للفلسطينيين تتغير شيئًا فشيئًا، خاصة مع تحول مسار القضية الفلسطينية من نضال شعب يحاول نيل حقوقه المشروعة، إلى صراع «فلسطيني-فلسطيني»، هدفه محاولة إثبات من هو الفصيل الأقوى والمسيطر على الساحة، لنيل إعجاب الممولين ومباركتهم.
وبدلًا من أن تكون أنظار الفلسطينيين منصبة باتجاه المسجد الأقصى، أصبحت أنظارهم متسمرة باتجاه الكهرباء التي يرونها ويستمتعون بأنوارها ستة ساعات يوميًا، وفي آخر استطلاعات الرأي التي أجريت مع موجة اللجوء الأخيرة التي ضربت المنطقة، أظهر نحو 45 بالمائة من الفلسطينيين في قطاع غزة، رغبتهم في الهجرة حال توفرت الطريقة والمال، حتى وإن كان طريق الهجرة محفوفًا بالمخاطر.