رئيس التحرير
عصام كامل

كُرات الفساد الحمراء والبيضاء!


كان الوقت ليلًا، شوية انتعاش وحبّة طراوة عكس مُعاناة طول النهار، إزازة ماء صنبور (حنفية) معى أسحب منها شفطة شفطة باستمتاع، وأنا جالس بجوار سائق التاكسى بعد صلاة التراويح، بينما أغانى المهرجانات تدق رزع وخبط ودوشة في الأبواب والإزاز والكنبة والكرسيين، وفى رأسى المسكين!


قُلت له: "ما تشغَّل لنا حاجة حلوة يا أسطى، حاجة رومانسية للست مثلًا الحُب كده أو جددت حُبَّك ليه، أو دورين لـ(عبد الوهاب) زى الكرنك أو النهر الخالد".. سألنى "مش الكرنك ده مش بتاع المرحومة (سعاد حسنى) لما كانوا عاوزين لا مؤاخذة..." كلمة لا مؤاخذة دفعتنى لمُقاطعته وإنهاء الحوار فيما تحمَّلت البقية الباقية من الرزع والخبط في دماغى المسكينة حتى وصلت للمقهى!
إعلانات (بيومى فؤاد) عن مُكافحة الفساد، ومُطالبة الموظفين كبارًا وصغارًا بالتعقُّل ومنع البيروقراطية والواسطة تملأ الشاشة الضخمة في المكان، هذه هي الرومانسية الحقيقية يا عزيزى، رومانسية تتفوَّق في كونها رقيقة حالمة عذبة على الحب كده وجددت حُبَّك ليه ومش هقول الكرنك تانى!

حملة إعلانية تُطالب الفاسدين بكُل رقة وحنان بالكف عن فسادهم لأن هذا فساد، حاجة زى مُفسِّر الماء بالماء، أو كقول الشاعر في تشبيه بلاغى فاشل بينضرب بيه المثل سلبًا "كأننا والماء من حولنا قومٌ جلوسٌ حولهم ماءُ" وهو نفس بيت الشعر الذي استخدم الزعيم (عادل إمام) اشتقاقًا ذكيًا منه بعد سنوات طويلة في مسرحيته (شاهد ماشافش حاجة) في عبارته الشهيرة "رقاصة وبترقُص"!

الغريب في الإعلان أن (بيومى) يُطالب أصحاب الوسايط المُتداخلين لتعيين واحد معرفة في مصلحة حكومية، أو لتخليص مصلحة لصديق مُقابل جميلة أو مبلغ مادى بالكف عن هذا فورًا، لأنهم كده بياخدوا حق ناس تانيين، وكأن الموظف الفاسد المُرتشى رافع شعار "أبجنى تجدنى" أو الأخ السلكاوى غوَّاص بحر المصالح الذي في أحشائه وكرشه الدُر كامنٌ ميعرفش أن ما يفعله يضر بالغير كأشخاص، ويدمِّر المصلحة العامة للشعب المسكين والوطن المكلوم!

كأنك بتقول للحرامى إنت بتاخُد حاجة مش من حقَّك، أو بتقول للمُتحرِّش "ترضاها على أُختك؟" أسلوب ساذج مسكين غلبان لم يعُد يُناسب العصر الحالى الذي يشهد انهيارا أخلاقيا غير مسبوق في السنين الأخيرة لا سيما ما صاحب ثورة يناير التي طغى على كُل طيب وجيد فيها تلك السفالة العلنية التي صارت قاعدة عامة على شاشات التليفزيون وكراسى التكاتك على حدٍ سواء!

جاى حضرتك تطلب من الناس الالتزام بالأخلاق والأدب في عصر صار فيه (محمد رمضان) بما يُقدِّمه من غُثاء وفن مُنحَط يقوم بتدمير ما تبقى في البلد أو في قلوب الناس وعقولهم من قيم واحترام والتزام أخلاقى تجاه أي كيان أو شخص آخر، اللهم إلا الاحترام الواجب للمعلم البلطجى الأكثر قوة أو الأعلى صوتًا أو الأكثر قُدرة على قلع نصفه الفوقانى زى (رمضان) في كُل أعماله!

السينما تُقدِّم نماذج طيبة وسيئة من المُجتمع، تتحوَّل هذه النماذج عبر الشاشة الكبيرة في دار العرض، أو الشاشة الدرامية الصغيرة في المنازل لمُدعاة مُلحَّة للتقليد، يعنى لو في الشارع عشر بلطجية مثل (محمد رمضان) بيضربوا نار وبياخدوا حقوقهم بأيديهم عن حق أو عن باطل لا فارق، وبطرق تجذب الشباب والمراهقين والجهلة، فبعد نشر هذا الفكر الجذَاب بطبيعة الحال والمُتمرِّد على القواعد والداعى للتحرُّر من قيود الضعف أو الارتكان لقانون مبيجيبش غير حقوق الأقويا، يتحوَّل عدد بلطجية الشارع إلى عشرات الآلاف، فما الداعى للالتزام بقانون أو أخلاق أو أدب طالما البلطجى يفوز دائمًا بحنجرته ودراعه وصدره العارى؟!

كيف يقتنع أحدهم أن الخيانة غلط بينما الكثيرون من الخونة يملأون الأفق كنجوم مجتمع أو إعلام أو ثورة؟ وكيف لنا أن نُطالب المُرتشى بكُل أدب بألا يسعى للحصول على المال الحرام بعد عُمر طويل قضاه في هذا المسار وأصبح مُتمرِّسًا فيه، ده بيصحى الصُبح يدعى ربنا أن يُبارك له في الرشاوى "الشاى والقهوة والحلاوة"، وهل يجهل الموظف عديم الدين والضمير أن زحلقة المواطنين من أمام مكتبه بطريقة "فوت علينا بُكرة" و"ورقك ناقص ومستحيل يكمل" و"استنى على ما أخلَّص الفطار" أن ما يفعله جُرم؟ والله هو عارف لكنه يأمن العقاب لذا فإن الواجب والطبيعى بالنسبة له أن يُسيئ الأدب!

الحل فين؟ بالتأكيد مش في حملة إعلانية رومانسية ساذجة، فالفاسد يعرف أن فساده تخطى كُل حدود المنطق والعقل، وأنه جهر بما يفعله لدرجة أنه صار كالسيارة معلَّق نمر فساد مُتخصص على وشه وعلى قفاه، فساد ملاكى وفساد أجرة وفساد نقل، الحل في قانون صارم باطش قاس لا يعرف الرحمة مع كُل مَن يُفرِّط في حق الوطن عبر إفساد المصالح العامة والخدمية، الحل في التنكيل بكُل فاسد ومُرتش وأبو واسطة وكُل من يورِّث منصبه لأبنائه وأبناء أخيه وأبناء أخته وأبناء الرقاصة اللى ماشى معاها، مش الحل في لفت نظر وخصم سبعة جنيه ورُبع من مُرتَّبه، مع إبقائه في منصبه علشان يجمع سبعة ملايين ورُبع في المُقابل كنظير لخدمات يقدمها من تحت الترابيزة لمَن لا يستحقون مُقابل أسعار مُعدَّة سلفًا "رخصة سليمة لمبنى مُخالف بكذا" و"تعيين واحد معاه ابتدائية كطبيب في مستشفى حكومى بكذا" و"منح معاش عجز كامل أو مُصاب ثورة لطور يسد عين الشمس لم يسبق له أن اشتكى من شكة دبوس بكذا"!

الحل في الابتعاد عن الميوعة وفى الإقلاع عن الخوف من موظفين (الغالبية العظمى من الموظفين) يجرى الفساد في عروقهم مجرى الدَم، الحَل في الحسم، وفى تغيير القوانين المتهاونة التي تجعل الموظف فوق الدولة، وتمنع بشكل كامل إلقاءه في الشارع غير مأسوف عليه، بعدما تثبت عليه كُل أنواع التجاوزات والمفاسد، ولو حصلت الحكاية دى مع عشرين خمسين أو ميت حالة فسينصلح الكثير من أمورنا، مش لما نلاقى موظف فاسد في شرق إسكندرية مثلًا نقوم ننقله غرب إسكندرية يقوم بدل ما يوصل الشغل الساعة عشرة الصبح ويقعد يفطر ويشرب الشاى لحد الساعة واحدة، يوصل الساعة حداشر ويقعد يفطر ويشرب الشاى لحد الساعة واحدة قال كده قدرنا نقرفه في ساعة اصطباحة ضيَّعناها عليه!

الحلول القوية الحاسمة لن يتم تنفيذها، وسيظل الموظف المُرتشى مُرتشيًا، وسيظل بتاع الوسايط المجانية أو المدفوعة مُقدمًا عايش وزى الفُل، وهايفضل المُدرس اللى مش بيروح المدرسة علشان يقعد في سنتر الدروس الخصوصية زى ماهو، والدكتور اللى بيروح المُستشفى الحكومى علشان يحوِّل المرضى لعيادته ويحلب من وراهم الآلافات وإلا يولعوا بجاز هيفضل زى ماهو، يشوف إعلانات حملة مُكافحة الفساد ويضحك عليها، وبعدين يرِن الجرس للسكرتيرة قائلًا "دخَّلى الحالة اللى بعدها بسُرعة، عاوزين نخلَّص بدرى الليلة علشان عندنا إضراب في المُستشفى الصبُح نفسى ألحقه من أوِّلُه!"
الجريدة الرسمية