الانتخابات المبكرة بالعراق تعمق الشرخ الطائفى وتطيح بآمال المهمشين.. الشيعة لن يتنازلوا عن البقاء فى واجهة المشهد السياسى والأمنى.. والسنة تشترط تشكيل حكومة تكنوقراط برئاسة شخصية مستقلة
أعادت زيارة وزير الخارجية الأمريكى "جون كيرى" للعراق قضية "الانتخابات المبكرة" إلى الواجهة مجددًا، باعتبارها حلًّا يبدو سحريًّا لتجاوز المأزق السياسى الذى تعيشه البلاد، بسبب اشتداد حدة التجاذبات وتبادل الاتهامات بين الشركاء، الأمر الذى أدى إلى ارتفاع نبرة التقسيم وعلو النفس الطائفى، بما يمثله ذلك من مخاطر شديدة على العراق والعراقيين.
وعلى الرغم من أن فكرة الانتخابات المبكرة ليست جديدة على المشهد السياسى العراقى، حيث كانت طرحًا دائمًا يتم التلويح به كلما تعكرت الأجواء وتعثر الحوار بين شركاء العملية السياسية بالعراق الجديد، وذلك بسبب طبيعة بنيانها على أسس المحاصصة الطائفية، إلا أن طرحها فى هذا التوقيت يبدو أمرًا محفوفًا بالمخاطر.
وتحدث الدستور العراقى عن فكرة الانتخابات النيابية المبكرة فى المادة (64)، حيث نص على حل مجلس النواب بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه، بناء على طلب من ثلث الأعضاء، أو طلب من رئيس مجلس الوزراء وبموافقة رئيس الجمهورية، ويدعو رئيس الجمهورية عند حل مجلس النواب إلى انتخابات عامة فى البلاد خلال مدة أقصاها ستون يومًا من تاريخ الحل، ويعد مجلس الوزراء، فى هذه الحالة، مستقيلًا، ويواصل تصريف الأمور اليومية.
وتبدو خطوة الانتخابات المبكرة بداية لطريق مجهول، حيث لا يمكن لأى متابع للأوضاع هناك أن يتنبأ بطبيعة الخطوة التى ستلى الانتخابات بعد إعادتها، فحقيقة الأمور تقررها طبيعة الأجندات الخارجية المتحكمة بالمشهد العراقى، والتى تدير الأمور به، باعتباره ساحة لتصفية الحسابات، والحرب بالوكالة لصالح قوى إقليمية ودولية لكل منها حلفاؤها الذين ينفذون أهدافها بعناية عندما يحتلون واجهات المشهد الأمنى والسياسى.
فيما يتطلب تغيير الخارطة السياسية للمكونات والكتل فى البرلمان العراقى تغييرات فى طبيعة التحالفات التى يمكن أن تصل إلى سدة الحكم، وهو أمر يحكمه الانتماء الطائفى قبل أى شىء آخر، أو ارتفاع شعبية المعارضة، وهو أمر بعيد المنال بسبب طبيعة النظام الساسى بالعراق، والذى يقدم نموذجًا فريدًا يقوم على مشاركة الجميع بالحكم بدعوى "التوافق الوطنى".
وقد أسهم هذا الوضع الغريب من "الديمقراطية التوافقية" فى التأسيس لحكومات فاشلة مترهلة ينخر مؤسساتها الفساد، وهو ما انعكس سلبيًّا على حياة المواطنين الذين يعانون الأمرّين من فقدان الأمن والخدمات، رغم تجاوز ميزانية العراق حاجز الـ100 مليار دولار سنويًّا.
فيما أعاد نمط الديمقراطية التوافقية القائم على التراضى والمحاصصة الطائفية والقومية إنتاج برلمان بائس لا يجتمع بغالبية أعضائه إلا نادرًا وبغياب رؤساء الكتل، بالإضافة إلى عدم وجود معارضة حقيقية تتيح قدرًا من الرضا الشعبى لتحقيق بعض المطالب أو المكاسب؛ نظرًا لسيادة مبدأ "المصالح المتبادلة بين الكتل" لتمرير القوانين ذات الطبيعة الاستراتيجية .
ولعل المشكلة الحقيقية التى تبدو واضحة وضوح الشمس ويعرفها الجميع هى المنظور الطائفى الذى يتم النظر من خلاله للأمور، وليس المنظور الوطنى الذى يجب أن يسود، وهو ما جعل من أى حراك سياسى أو حتى شعبى يبتعد كثيرًا عن المصداقية، لمجرد وروده من مكون طائفى أو قومى معين .
ويبرز تأثير هذا المنظور الطائفى جليًّا فى استمرار حكومة نورى المالكى حتى الآن، رغم مقاطعة وزراء ائتلاف "العراقية" لها منذ يناير الماضى، احتجاجًا على عدم استجابة الحكومة لمطالب المحتجين والمعتصمين "السنة" منذ أكثر من ثلاثة أشهر، ناهيك عن مقاطعة جزء من وزراء "البيت الشيعى" للحكومة التى تم تشكيلها بمغالبة شيعية من خلال ما عرف "بالتحالف الوطنى".
ومن خلال استعراض مواقف المكونات الرئيسية للشعب العراقى يمكن لأى مراقب أن يتأكد من أن المشهد السياسى لن يتغير كثيرًا فى حال إجراء انتخابات مبكرة، إلا أن الخطر الكامن خلف هذا التبكير هو تعميق الشروخ الطائفية، ناهيك عن الإطاحة بآمال المهمشين الذين لا ناقة لهم ولا جمل فيما يجرى من صراعات.
ونبدأ أولا بشيعة العراق الذين لن يتنازلوا قيد أنملة عن البقاء فى واجهة المشهد السياسى والأمنى، وقد ظهر هذا جليًّا عندما وحّدوا جهودهم داخل "البيت الشيعى"، رغم الخلافات التى بلغت حد القتال بين مختلف المكونات "الصدريون وبيت الحكيم والمالكى وتيار الجعفرى والجلبى"، حتى يضيعوا الفرصة على زعيم القائمة العراقية التى تغلب عليها المكونات السنية، لتشكيل الحكومة باعتباره الفائز فى انتخابات عام 2010، واستمر المالكى رئيسًا للوزراء لفترة ثانية مدعومًا من حلفائه الشيعة.
أما سنة العراق الذين وافق أحد قادتهم، وهو رئيس مجلس النواب أسامة النجيفى، على مقترح وزير الخارجية الأمريكى "جون كيرى" بإجراء انتخابات نيابية مبكرة بشرط تشكيل حكومة تكنوقراط برئاسة مستقل، فمن المتوقع أن يزداد تخندقهم الطائفى بسبب معاناتهم من الإقصاء والتهميش، واعتراضهم على سياسات رئيس الوزراء الشيعى نورى المالكى، الذى يتهمونه بتجاهل انتفاضتهم المستمرة منذ ثلاثة أشهر، والعمل على قهرهم، وعدم إشراكهم بشكل حقيقى فى إدارة الدولة والثروة كمكون رئيسى.
فيما سيحاول الأكراد الذين أعلن أحد أهم قادتهم، وهو رئيس إقليم كردستان مسعود بارزانى، أنه ليس ضد إجراء الانتخابات المبكرة فى العراق، مشترطًا إجراء إحصاء سكانى دقيق بإشراف الأمم المتحدة، وتعديل قانون الانتخابات، والحفاظ على مكتسباتهم التى باتت مهددة، بسبب ما يرونه إنكارًا من حليفهم التقليدى نورى المالكى، وهو ما أدى إلى تغيير دفة الولاء باتجاه السنة ودعم انتفاضتهم.