النفخ في الصور والبعث «أول مراحل القيامة»
"قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ" سورة الواقعة 49- 50، البعث والنشور عودة الروح إلى الإنسان مرة أخرى ليلقي ربه فيحاسبه على ما اقترف من إثم أو أعطي من حسنات، إنه يوم القيامة، اليوم المشهود، وقد ذكرت فيه أهوال جمة ووقائع كثيرة من خلال القرآن والسنة النبوية.
الثابت في القرآن والأحاديث النبوية أن يوم القيامة يشتمل على مراحل عظيمة ومواقف هائلة، وأوّل هذه المراحل هو بعث النّاس، وخروجهم من القبور، وحشرهم جميعًا حفاةً عراةً، ثمّ بعد ذلك يأتي الأنبياء للفصل في أمرهم، فتكون الشّفاعة الكبرى لسيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ تتطاير الصّحف، ويأخذ كلّ إنسان كتابه بيمينه أو شماله، ثمّ تنصب الموازين، وتوزن الأعمال، وتتبع كلّ أمّة ما كانت تعبد في الدّنيا، ثمّ يأتي الورود على الحوض، ثمّ المرور على الصّراط، ثمّ وقوف النّاجين من هذه المراحل على قنطرة المظالم، وذلك للقصاص فيما بينهم، ثمّ دخول الجنّة أو النّار، وبعد ذلك خروج من دخل النّار من المؤمنين، وذلك في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
النفخ في الصور
أول مراحل يوم القيامة يكون "النفخ في الصور"، وفيه إيذان بمجيء يوم القيامة وانتهاء الحياة في الأرض وفي السّماء، حيث قال تعالي في سورة الزمر 68 "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ".
ويقول العلماء: إن هذه النّفخة تكون هائلةً ومدمّرةً، فعندما يسمعها المرء فإنّه لا يستطيع أن يوصي بشيء، ولا يستطيع أن يعود إلى أهله، قال تعالى: "مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ- فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ" يس 49-50، وحسبما ورد فإن السّاعة تقوم في يوم الجمعة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "خير يوم طلعت عليه الشّمس يوم الجمعة، فيه خُلِق آدم، وفيه أُدخل الجنّة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم السّاعة إلا يوم الجمعة".
واختلف أهل العلم في النفخ في الصور، إذا ما كانت نفختان أم ثلاث، لكن العلماء يرجحون أنهما نفختان، حيث قال تعالي "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ" الزمر 68.
وقال الشيخ ابن باز في "فتاوى نور على الدرب": "الصور قرن عظيم، ينفخ فيه إسرافيل النفخة الأولى للموت والفزع، والنفخة الثانية للبعث والنشور، هاتان النفختان جاء بهما القرآن الكريم، إحداهما يقال لها: نفخة الصعق، ويقال لها: نفخة الفزع، وبها يموت الناس، والثانية نفخة البعث، وقال جماعة من العلماء: إنها ثلاث: نفخة الفزع، وقد يفزع الناس فقط، ثم تأتي بعدها نفخة الموت، ثم نفخة البعث والنشور، والمحفوظ نفختان فقط، كما دل عليهما كتاب الله العظيم ".
ويذكر العلماء أنه إذا أذن الله تعالى بموت الأحياء أمر ملك الصور أن ينفخ فيه؛ فينفخ نفخة عظيمة تفزع جميع الخلائق فيصعقون منها ويهلكون، ثم يمكثون على ذلك مدة، الله أعلم بمقدارها، فتتحلل أجسادهم في هذه المدة ولا يبقى منها إلا عجب الذنب، وهو العظم المستدير الذي في أصل الظهر، ثم يرسل الله سحابًا فتمطر مطرًا فإذا أصاب الماء هذا العظم نبت منه الجسم كما ينبت النبات، ويتركب الخلق من هذا العظم، ثم ينفخ في الصور نفخة البعث فتعود الأرواح إلى الأجساد، فيخرجون من القبور سراعًا إلى أرض المحشر.
البعث والنشور
وتأتي بعد ذلك المرحلة الثانية بـ"البعث والنشور"، ويراد بالبعث هنا المعاد الجسمانيّ، وإحياء الموتى في يوم القيامة، حسبما ذكر أهل العلم، والنّشور كلمة مرادفة للبعث في معناها، فيقال: نشر الميت نشورًا إذا عاش بعد الموت، وأنشره الله أحياه، فعندما يشاء الله تعالى أن يعيد النّاس ويحييهم فإنّه يأمر إسرافيل فينفخ في الصّور، فتعود الأرواح إلى أجسادها، ويقوم النّاس للقاء ربّ العالمين.
وقد تحدث الله سبحانه وتعالى عن مشهد البعث، فقال: "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ* قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ* إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ" يس51-53.
ويكون إنبات الأجساد من التراب بعد إنزال الله للماء الذي ينبتها، ويكون مثل إنبات النّباتات من الأرض إذا نزل عليها الماء من السّماء، ولذا فإنّ الله تعالى أكثر في القرآن الكريم من ذكر ضرب مثل للبعث والنّشور كأنّها إحياء للأرض بالنّبات عندما يسقى، قال تعالى: "وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ "، الأعراف57.
قد أودع الله في جسد الإنسان ما يثبت أنه سيعود للحياة مرة أخرى، وهو جزء صغير جدًا في أسفل العمود الفقري يسمَّى بـ "عجب الذنب"، وقد بيَّنت البحوث العلمية الحديثة أن الشفرة أو الشريط الوراثي الأولى الذي خُلق منه الإنسان موجود في هذا الجزء المتناهي في الصغر، والعجيب أن الإنسان بعد موته يبدأ جسمه بالتحلل والتفكك ويفنى الجسد كله باستثناء عجب الذنب.
وقد قام العلماء باختبار هذا الجزء من الإنسان وتعريضه لأقوى العوامل من إشعاعات وسحق وضغط وحرارة وغير ذلك؛ فتبين ثبات هذا العجْب والحفاظ على تركيبه مهما كانت الظروف، وهنا تتجلى عظمة البيان النبوي عن هذه الحقيقة العلمية الثابتة.