رئيس التحرير
عصام كامل

«قُبلة»


وصل القطار متهاديا بعد تأخير استمر أكثر من ساعتين، وعلى غير عادته كانت عربات القطار فى تلك الليلة الباردة أشبه بالخاوية، ومع ذلك تجمهر العشرات أمام الأبواب الحديدية، وقبل أن يستوى على قضبانه تلاحمت الأجساد فلم تعد تفرق لدقائق بين ذكر وأنثى، ولم أجد تفسيرا لهذا الزحام رغم وجود أماكن للجميع أو على الأقل لأغلب الراكبين، إلا أن يكون أمر التزاحم عند الركوب له علاقة بخبرة مرتادى عربات الموت الحديدية، فى الدرجة الثانية والثالثة، والتى يعنى البراح فيها أنك تستطيع الوقوف مكانك بكلتا قدميك.


ركبت مع الراكبين، وابتهجت كثيرا لأنى وجدت مكانا خاليا للجلوس، وهى من عجائب الزمان أن تجد مكانا خاليا فى عربات تلك الدرجة.

من محطة المنيا تحرك القطار مع الساعات الأولى للفجر، وفى مقعدى بجوار نافذة القطار جلست شاردا أتأمل صفحة الماء لترعة الإبراهيمية الواسعة، جذبتنى أشعة القمر الفضية وهى تختلط بأضواء الكشافات الكهربية الملونة، لترسم على سطح الماء المتحرك لوحة بديعة قوامها السحر والإبداع، لم أدرك تحرك القطار إلا بعد أن شاهدت شجرة الجميز الكبيرة، التى تقبع على شاطئ الإبراهيمية من ناحية شريط القطار بعيدا عن المحطة بمئات الأمتار.

عند نهاية العربة التى كنا فيها، تجمع أربعة من الشباب الصغار، كانوا فى مقتبل حياتهم الجامعية، أخذتنى من شرودى أصوات ضحكات عالية صادرة عن هؤلاء الشباب، نظرت لاستجلاء الأمر، فوقع بصرى عليه بأنفه الدقيق، وجبهته المنحوتة أعلى وجهه، وفمه الصغير الذى يبدو عليه أنه ذاق من الألم ما يفوق درجات الحسرة والمرارة، كان بأثماله البالية التى تظهر جسده النحيل، وتفضح فيه أكثر مما تستر، يقف بين هؤلاء الشباب مشدوها، ينظر إليهم، ولسان حاله يسأل عما يضحكون؟ وكان واضحا للجميع ما يحويه موقف هذا الطفل الصغير من ذلة ومسكنة، إلا بقايا من عزة أو كرامة تلمحها فى عينيه الضيقتين.

أما ما كان من أمره فقد سخر منه هؤلاء الفتية لتجرأه على تقبيل أحدهم بعد أن انحنى إليه إثر هزة من هذا الطفل النحيل للعملاق الذى يقف أمامه، ليعيره انتباهه، راجيا منه المساعدة.

بعد أن سئم الشباب السخرية من ذلك البائس الفقير، تركوه يمضى إلى حال سبيله، أكمل طريقه فى العربة ذاتها، وأخذ يتنقل بين كراسى الركاب، لم يكن ينطق، أو يطلب شيئا فقط هو يمضى بين الجالسين على الكراسى، يهز الواحد منهم، فما أن ينظر إليه حتى يطبع على خده أو جبهته قُبْلة، وإن لم يستطع طبع قبلة على يده أو على كتفه، مادا يده الأخرى فى إشارة إلى حاجته، كانت ردود فعل الركاب متباينة، فهذا يتأفف، وتلك تنهره على ما فعل، وذاك يسبه، ورابع يلعن آباء هؤلاء الذين يتركونهم هكذا دون رعاية، وآخر يحنو عليه بقطعة من نقود.

مع خطواته المتثاقلة الوهنة، وفى اتجاهه ناحيتى أحسست بالقلق، وتحسست جيبى لأجد أن ما تبقى لى من مصروفات قطعتين من النقود، لا تزيدان عن الجنيهين، تلمست إحداهما، ولكن ما لبثت شجاعتى أن خانتنى، عندما تذكرت المسافة التى يجب على أن أقطعها حتى أصل إلى مقر سكنى وكانت السيارة التى سأستقلها تحتاج إلى قطعتى النقود، تخاذلت يدى، حين تذكرت أنى قد أكون مكانه وأنا أتسول أجرة طريقى لو أنى لم أستطع سدادها لقائد السيارة، فآثرت نفسى عليه، ولما دنى منى طبع على خدى قبلة، فلم أملك غير قبلة طبعتها على جبينه، راجيا الله أن يسامحنى.. لأنى طمعت فى الجنيهين.
الجريدة الرسمية