رئيس التحرير
عصام كامل

و«النيل» إذا غضب ؟


أتعجب كثيرا من حالة الصمت الإعلامي والبرلمانى تجاه قضية نهر النيل، وما يحاك له من مؤمرات في الجنوب.. وأتعجب أكثر من طريقة تعامل السياسيين مع تلك القضية..وكأن انحسار مياه النهر مجرد مشكلة كغيرها من آلاف المشكلات اليومية التي يعيشها المصريون، وحينما يعجزون عن مواجهتها يتعايشون معها! أو اعتبارها إحدى قضايا الأمن القومى المصرى، التي تحتاج إلى حِبَال السياسة الطويلة، التي تتسع إلى حِيَّل السياسيين..أو أنها قضية يحتاج الحكم فيها إلى التفنن في إقناع الأطراف المتنازعة..أو أنها صفقة تجارية تقبل المساومة!


فالنيل ليس مجرد مجرى مائى يمتد في ربوع الوطن، وإنما هو شريان يمتد من الرأس حتى أخمص القدم..رسم بشكل أساسي خصائص الإنسان المصرى، كما شَكَّل طموحاته وحدد معالم مستقبله.. وتمحورت حوله عبر التاريخ "مخاوفه"!

ويربط المعنيون بدراسة التاريخ المصري بين فترات المجاعات التي تعرض لها المصريون عبر التاريخ، وبين عدم وفاء النيل. لدرجة أنهم جعلوا لوفاء النيل"عيدًا" مقدسًا..وإذا لم يف النيل بمائه ضحوا بأجمل فتياتهم غرقا حتى يفيض.. فكان النيل أول معبود للمصريين تالته الشمس ثم الحاكم باعتباره المسئول الأول عن "رعاية" النهر والقادر على تنظيم "الرى"..فإذا لم يتمكن "الحاكم" من الحفاظ على النهر أو تنظيم الرى سقطت "ألهويته"!

وعادة ما كانت أفراح المصريين وتعاستهم مرتبطة بالنهر.. فنجد الفلاح في الصعيد قد ربط على مَّر التاريخ حياته بزيادة النهر ونقصانه..وظهر ذلك جليًا في الغناوى التي يرددها الفلاح وهو ينظر إلى النيل..ويُجَسد فيها معاناته اليومية مع النهر ويرصد فيها "مخاوفه"..فنجده يقول"صاحي من الصبح بدرى..والنيل بيسبق خُطايا.. يفيض يِغَرَّق جزاير.. يهبط أموت في حشايا "!

فلم يكن فيضان النيل أو نقصانه فقط سببا لحرمان المصريين من الغذاء..فغالبا ما كان لنقصانه أثر سلبي وخيم على حركة "التجارة" الداخلية المعتمدة على النيل في نقل البضائع وسير السفن. كما أن نقصان النيل لم يكن وحده هو المسئول عن حدوث الظمأ والقحط الذي يصيب المصريين..بل كان فيضانه أيضا سببًا قويًا في تفويت موسم الزراعة على الفلاحين..فكان إذا زاد المقياس عن ثمانية عشر ذراعا استبحر من الأرض أكثر من ربعها، وعند "انصرافه" يحصل القحط ويعم الوباء!

وبعد بناء السد العالى وانخفاض منسوب النهر تحولت "جُزر" طرح النهر إلى "حَلَبَة" للصراع الدموى بين العائلات في الصعيد.. حتى صار كل شبر يطرحه النهر إلى اليابس يُروَى بدماء الأبرياء، الذين ربطوا حياتهم بفيضان النهر أو هبوطه! بل وأسفر هبوط النهر أو انحسار مياهه عن جملة من الصراعات القبيلة، التي عجزت الدولة المصرية عن إدارتها، أو التخلص منها على مَر السنين..إذ شكلت في مجملها "ثقافة" شعب..أو حالة "درامية" صارخة، بطلها "النهر".. تحولت فيها جُزر طرح النهر إلى جزر لطرح "الدم"!

ورغم أن عدم "وفاء النيل" كان من أشد وأنكي العوامل الطبيعية التي تسببت في إحداث المجاعات على الإطلاق. تلك المجاعات التي كانت بمثابة فتيل الثورة على الحاكم، وسببا كافيا لإسقاط أنظمة الحكم على مَّر التاريخ. إلا أن الثورات التي يثيرها البشر الطامعون في السلطة والحريصةن على الوصول إليها بأي وسيلة؛ كانت أشد ضررًا، وأعظم خطرا،ً وأطول زمنا من الثورات التي كان بطلها "النهر"؛ فغالبا ما كانت الأزمات التي تفرزها "أمزجة" النهر تؤدى إلى تعاون الناس وترابطهم؛ حتى يتمكنوا من التغلب على تلك الظروف الطارئة التي صنعتها أمزجة النهر المتقلبة !

أما الثورات التي يؤججها الصراع السياسي فعادة ما تضعف قوة المجتمع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية،"وربما تستمر زمنا أطول حتى يستقر المجتمع "نظرا لوجود أطراف لهم مصالحهم في استمرارها..فقد كان ولا يزال الصراع السياسي على السلطة أكبر بلاء أصيبت به مصر على مَر التاريخ..إذ كان النهر أرحم بأرواح المصريين وحضارة مصر من سكانها!

وإذا كان هناك من يرى أن كثيرا مما أصاب المصريين من التفرقة والصراع والضعف والهزيمة؛ تارة كان بسبب "عبادة النهر" وأخرى بسبب "عبادة السلطة "؛ فإن الواقع يشير إلى أن صبر المصريين على الفقر والجوع، أكبر بكثير من صبرهم على المساس بالكرامة، أو تعرضهم للظلم والهوان..فربما تجد الأنظمة الحاكمة لنفسها مبررًا لفقر الشعب أو "إفقاره" وسوء أحواله الاقتصادية، ككثرة السكان أو قلة الموارد وتأخر البحث العلمي..ولكنها لن تجد أبدًا مبررًا لقهر الشعب أوتهميشه!

إن النجاحات التي حققها الرئيس عبد الفتاح السيسي في الدفاع عن وجود الدولة المصرية، وإسقاط الفاشية الدينية.. ومحاولاته المستميتة استعادة مصر لدورها الحضارى إقليميا ودوليًا..كلها لن تشفع له في حالة ضياع النهر؛ إذا تمكنت إثيوبيا من بناء السد..فلن يقبل المصريون في-حالة عطشهم-الأخذ بحسن نوايا الرئيس أو حرصه على عدم استكمال بناء سد النهضة..إن الحافظ على النهر من الضياع هو القضية الوحيدة التي لايهم الشعب معرفة كواليسها..ولكن الذي يعنيه دائما هو استمرار النيل في "الجريان" ليحكى للأجيال القادمة..كيف بنى المصريون "القدامى" حضارتهم..وكيف حافظ "المعاصرون" عليها من الضياع!
الجريدة الرسمية