رئيس التحرير
عصام كامل

تشترى ليبى؟!


فى زنزانة لا تتعدى مساحتها مترين فى مترين يجلس أحمد قذاف الدم وحيدًا شريدًا بسجن طرة.. ربما تعاوده ذكرياته أيام حرب أكتوبر عندما كان جنديًّا وسط مجموعة من خيرة الشباب الليبيين الذين فضّلوا مشاركة أبطالنا حرب الاستقلال فى سيناء.. وربما تنغص عليه فكرة الغدر التى كانت ثمنًا لشهامته وعمله طوال سنوات عمره لتوطيد العلاقة بين مصر وليبيا.. وربما يداعبه الأمل فى ساعات حالكة السواد بأن الحق أحق أن يتبع، وقد يتوهم أن المشير حسين طنطاوى سيخرج عن صمته ليقول للجميع: إن مصر منحته الأمان فى بلده الثانى جزاء ما فعل للبلدين.


يقولون: "الخواجة لما يفلس يدور فى دفاتره القديمة"، والخواجة الإخوانى بحث فى دفاتره القديمة بعد أن باع الاستقرار والأمن، وباع التوافق، وباع كل ما يملك، لم يجد فى جعبته إلا شرفًا تركه الأجداد على مدى تاريخهم فقرروا بيعه، وكان ثوار الناتو فى ليبيا جاهزين للشراء، قرر الخواجة الإخوانى بيع اللاجئين الليبيين، وبدءوا ببيع أحمد قذاف الدم، وهو الأمر الذى حرك واحدًا فى قيمة وقامة الأستاذ هيكل ليتحدث عنه باستفاضة مع الإعلامية المعروفة لميس الحديدى، حيث بدأ الرجل مستغربًا متعجبًا مندهشًا لما يحدث للسيد أحمد قذاف الدم.

ولأننا كنا أول صحيفة تتحدث عن صفقة العار ولم يردّ علينا أحد، بدءوا فى تنفيذ صفقة لم تتورط مصر فى مثيلاتها على مدى تاريخها، نجح ثوار الناتو فى ليبيا فى الضغط على مصر والمصريين بأن قبضوا على مجموعة من المصريين دون ذنب، وألصقوا بهم تهمة التبشير؛ لتصوير أمر القبض على أحمد قذاف الدم بأنه مقابل الإفراج عن أبنائنا الأبرياء، والحقيقة التى لا جدال فيها أن حلفاء الناتو فى ليبيا الجديدة إنما قرروا ممارسة نفوذهم الجديد، وبعد أن كانت ليبيا امتدادًا لمصر فى عصر الدكتاتور السابق أصبحت شعلة نار تهدد حدودنا فى عصر الثوار الجدد.. ثوار حلف الناتو.

والغريب أن قوات الأمن التى لا تستطيع القبض على "حرامى حِلَل" فى شبرا قامت بليل بقوة قوامها مائة وخمسون رجلًا بقيادة قنصل ليبيا فى مصر لإلقاء القبض على قذاف الدم، وهو الذى يعيش بحراسة مصرية وفق الاتفاق الذى أبرم بين المجلس العسكرى، وبغطاء من الخارجية المصرية، فحدث تبادل لإطلاق النار بين القوتين المصريتين؛ لأنه لم يحدث تنسيق، والأغرب أن قوات الأمن المصرية التى توجهت بعزيمة لا يناظرها سوى عزيمة القبض على نخنوخ، وقبضوا على الرجل الذى أفنى حياته حبًّا فى مصر وعشقًا لها، حيث شارك جنودها فى حرب أكتوبر، وكان صاحب اليد الطولى فى عقد اتفاقيات كان بموجبها يحصل المصرى على حقوقه فى ليبيا مثل الليبى والعكس صحيح.

اتهموا أحمد قذاف الدم بأنه من الأزلام، والأزلام لمن لا يعرف هو البديل الليبى للفلول فى مصر، علمًا بأن معظم حكام ليبيا اليوم من الأزلام، أما من سيحكمون ليبيا فى أية انتخابات قادمة هم أتباع القذافى الذين تقدرهم دوائر دولية بأنهم ٧٠٪ من عدد أصوات الناخبين الليبيين، وكانت التهمة المعلنة ضد أحمد قذاف الدم هى اختلاس ١٥٠ مليون دينار ليبى، علمًا بأنه أنشأ الشركة الزراعية بهذا المبلغ، وثمنها اليوم يقدر بـ ٦٥٠ مليون دولار، تم تسليمها لليبيا، فأين إذن الاختلاس؟ والسؤال الذى يطرح نفسه على الساحة الآن: لمن نسلم أحمد قذاف الدم؟ هل نسلمه لسلطة عاقلة أو سلطة شرعية؟

الإجابة تكمن فى عدة حقائق؛ أولها أن سجون ليبيا تزخر بـ ٢٢ ألف سجين، بينهم ألفا امرأة، ومن بين هؤلاء معاقون وأطفال وشيوخ تعدوا السبعين خريفًا، والتعذيب هناك واحد من العادات اليومية التى تمارسها السلطة التى قررنا تسليم أحمد، وغيره ١٨٠٠ لاجئ آخر، والحقيقة الثانية أن المسئول عن سجون ليبيا اليوم هو خالد الشريف، الذى كان سجينًا فى جوانتانامو، ويكفى أن تتابع خالد لأمين مسئول حقوق الإنسان فى ليبيا وأسباب استقالته على صفحته الخاصة بالـ"فيس بوك".. لقد قال الرجل كلامًا مرعبًا عن حقوق الإنسان فى ليبيا الجديدة، وتحدث باستفاضة عن أسباب هروبه إلى لندن، حيث لم تحتمل إنسانيته ما يحدث للبشر فى ليبيا.

ومن التهم العجيبة التى طالت أحمد قذاف الدم أنه زوّر وثيقة سفر، ولم يقل لنا واحد من هؤلاء الذين "تعنتروا" على قذاف الدم ليلًا لماذا كان معهم القنصل الليبى أثناء القبض عليه؟ ولم تقدم لنا حكومة هشام قنديل مبررًا واحدًا لتسليم لاجئ ليبى إلى سلطة غير شرعية، ويكفى أن نذكر للرئيس محمد مرسى أن دولة النيجر العظمى قررت طرد رجال النظام الليبى الجديد لمجرد أنهم طالبوا باستعادة "سعدى" نجل الرئيس الليبى الراحل، وقالوا كلمتهم الشهيرة: ليست النيجر من تبيع لاجئيها.. انتفضت النيجر رغم فقرها، واستسلمت مصر رغم غناها!!

مصر أيام مبارك لم تسلم لاجئًا واحدًا، ومصر أيام السادات لم تسلم لاجئًا واحدًا، ومصر أيام عبدالناصر احتضنت اللاجئين من كل حدب وصوب، ولم تسلم واحدًا، وقد عاش اللاجئون الليبيون أيام الملك السنوسى فى مصر فى هدوء، وعاشوا أيام القذافى فى هدوء، ولم يجرؤ القذافى على طلب استعادتهم من صديقه حسنى مبارك.

كانت مصر على مدى تاريخها حضنًا دافئًا لكل من يستجير بها، وأصبحت فى عهد الإخوان تبيع أغلى ما لديها بلا ثمن، حتى لو قدرت الصفقة بمليارين من الدولارات!!



الجريدة الرسمية