رئيس التحرير
عصام كامل

مارينا فارس تكتب «صديقتي ذات الهدايا الخضراء»

مارينا فارس
مارينا فارس

الآن يا صديقتي أكتب إليك وأنا لم أرك منذ أيام كثيرة.. كان لقاؤنا الأخير مختلفًا.. أحسست فيه أنني مجرد ضيفة لا مكان لي يقيم.. كان لقاءً خاطفًا، حتى أنني لم أجد في الوقت متسعًا كي نجلس أنا وأنت وحدنا معًا.


وها أنا ألملم ذكرياتي من حولك وارحل.. صديقتي لقد دفعتني الأيام على هذا الرحيل الذي يشبه الخريف المعتم، لكن أنت من علمني أن لكل خريف ربيع يليه.. حين كانت تهجرك كل الأوراق الخضراء وتسقط أرضًا، تدوسها الأقدام غير مبالية.. أتذكرين؟ كانت تزروها الرياح وتتجمع في الأركان وكانت بالنسبة لمسئول النظافة أشياء ثقيلة تزيد من مهامه.. وكانت بالنسبة لي رسائل منك تحمل حكمة بالغة.. حكمة مرور الأيام وتتابع الفصول.. وكنت أفهمك يا صديقتي الأولى.. كنت أفهم رسائلك.. نحن البشر أيضًا تتابع فصولنا، وتحمل قلوبنا المشاعر تارة خضراء نضرة وتارة أخرى تذبل وتسقط وتزروها رياح الزمان والنسيان.

كنت آتي باكرًا عن موعدي حتى يتسنى لي متابعة احتفال العصافير السعيدة دائمًا بصباح الشتاء، كنت أجلس وحدي على الرصيف الأصفر ونظراتي تطير خلف العصافير المرحة وأتمنى أمنية سريعة أن يمنحني الله جناحين كي أشاركها مرحها.. أجلس معك وأحكي كل شيء، أفرغ كل ما في جعبتي من أغانٍ.. وأنت دومًا تسمعين وتشعرين بكل شيء خبأته أنا في أعماق قلبي.. أعرف أنه بعد قليل سيتوالى توافد الطلاب وسيزداد حضورهم حتى لا يصبح هناك متسع للهو العصافير.. كل منهم يحمل مشكلاته الصغيرة وهذا المكان الهادئ الذي كان مسرحًا لأجنحة العصافير سيعج بحكاياتهم وركضهم وصراخهم المجنون.. وطبعًا ستعود العصافير لتختبئ بين أغصانك.

آه يا صديقتي! مضي أربعة أعوام دون أن أنتبه لعقارب الساعة التي تركض كالمجنون، كم حدثتك وكم سمعتِني بكل اهتمام! كم شكوت لك وجعًا اخترق قلبي وخيبة أمل في عمق روحي! كم من مرة احتفظت جفوني بدمعة وهربت من الناس كي أسقطها بين أوراقك! كم احتضنتك نظراتي حين كانت تغمرني السعادة حتى أرشف قهوتي تحت ظلك الوارف على شراييني! حينها كنت أراكِ ترتعشين مثلي من نسائم الشتاء التي تطوي رسائل الحنين.. كم زرعت في قلبي أفراحًا حين أرى براعم الربيع تنفجر في أغصانك خضراء نضرة! كم خبأت بين أوراقك قصة سعادة صغيرة لم أحكِها لأحد لأني أعرف أنه لا أحد غيرك سيفهمها! نقشت على أوراقك أخبار حكاياتي كلها.

حين كنت في عامي الدراسي الثالث، خرجت من محاضرة لتوّي هرعت إليك فهالني ما رأيت.. كانت فروعك الممتدة لأعلى كأيدي ناسك، مُلقاة على الأرض! هل تعلمين أي وجع اخترقني؟! أتعلمين أني سمعت بكاءك يومها وشعرت بكل ألمك؟! لكني لم أستطع فعل شيء.. فقط كانت تلعنهم نظراتي وصليت مرارًا كي لا يكرورا جريمتهم في العام التالي.

أما ما تصنعين من توت، فتلك سعادة عاجزة أنا عن وصفها.. شيء تقف أمامه لغتي حائرة.. شيء ما على قدر بساطته رائع. أنا أعرف أنك أنفقت طوال السنة تصنعينها من قبلات الشمس، كنت أتابعك حين تتركينها تسقط في أمومة وعطاء يقيم إعصارًا من السعادة في رأسي.. كنت أجمعها وقلبي يفيض بالشكر لله الذي علمك كيف تصنعينها ووضع فيها كل هذا الحب والشهد المصفّى.. سعادتي في أن أشارك سكانك من العصافير الرمادية والببغاوات الخضراء طعم تلك السعادة الغضة.

أرأيت؟ إنك قد صرتِ أجمل مكونات غرفة ذكرياتي الصغيرة! كل شيء أصبح منقوشًا في ذاكرتي، أوراقك اليابسة قبل التوت الأخضر، أغصانك الفارغة قبل اشتعالها بربيعك. أنت التي تحمل ذكرياتي على فروعها. أنت التي سقيتها أمنياتي يومًا.. أنا أفخر بصداقتك وأكتبها على دفاتري الملونة وأنا دائمة الحديث عنك وعن أخبارك برغم ما تجلب لي من سخرية أحيانًا.

أنت تعلمين أن الصداقة أغلى ما في الوجود.. تعلمين أنها أغلى ما أملك دائمًا.. سواء إن عقدت صداقتي مع بشر أو مع شجرة أو مع نبتة صغيرة أو حتى مع العصافير الزائرة لشرفتي التي لا تستمر صداقتي بها سوى دقائق صغيرة. أو حتى صداقتي مع الرصيف الأصفر الذي يغرقه ظلك، ذلك كنت أشعر أنه كائن حي يحمل لي ذكرياتي ومرح حديث الأصدقاء.. فلا تنسي صديقتك دائمة الحديث لك عن أسرار قلبها.. لا تنسي من كانت تلقى عليك سلام الأصدقاء، مهما ركضت الأعوام بعمرك وعمري وتتابع الربيع والخريف على أغصانك فلا تلاقيني لقاء غرباء.. كوني دومًا صديقتي شجرة التوت، ذات الهدايا الخضراء الغضة.
الجريدة الرسمية