«الخامسة صباحا» قصة قصيرة لمرام عبيدات
غريبٌ أنتَ... تدخل حياتي في الساعة التي تشتهيها وتخرج منها في ساعةٍ أخرى. أبكيك وأرسمك كلمات، فأحرق أوراقي كل مساء علني أبدأ بدايةً جديدة. أتقوقع بالفشل وأمسح رمال يأسي لأبتدأ رحلةً أخرى...
اليوم! في الساعة الخامسة صباحًا، الباب يُطرق وما بين التقلبات وكسل الاستيقاظ، ألملم جسدي الهامد وأنظر من عين الباب ولا أرى إلا خيالات. فركتُ عينيي، سألتُ من الطارق! سعال فتاة، افتح الباب... عشرينية تبكي بحُرقةً وتسألني عن قطعة خبز فطلبتُ منها الدخول وبين خوفها وخوفي! دخلتْ، حضرتُ الإفطار لكلتينا وسألتها قصتها.
هي بدأت سرد قصتها وكأنها تحفظها عن ظهر قلب ولكنها كانت تسرد ألمًا. كانت تسرد تسلسلَ لحظات منذ فقدانها طفلها وحتى فقدانها بيتها.
أنا! وكأنني مازلتُ نائمة وأرى إحدى الكوابيس التي كانت ترافقني منذ صغري، كنت دوما أخاف أن أنام وحيدة، أركض إلى سرير والديّ متذرعة بالخوف من الرعد شتاء وأصوات الكلاب صيفًا، وفي الواقع كنتُ أهربُ من تلك الكوابيس، كنت وحيدة لا أخوة لي. أذكر أنّ والديّ كانا يتشاجران كثيرا وأمامي يضحكان وأمي كانت تبكي كثيرا عندما يغادر أبي المنزل. هي مازالت تسردُ قصتها وأنا أرجوها أن تأكل والبرد ينخر في عظامها وكأن لها ليالي تنامُ في العراء. في كثير من اللحظات يرافقنا البرد ليعبر عن خوفنا وهروبنا...
منذ سنوات كثيرة لم يجرؤ أحد على اغتصاب صباحي، كنت أنا وعود مارسيل خليفة ورائحة القهوة نتشارك الصباح، والآن! هي هنا. انكسر الصمت بوقوفها المفاجئ ورغبتها في الرحيل، خوفنا تبدد ليتكون خوف جديد، خوفي عليها وخوفها من نفسها. رجوتها المكوث... ألححتُ بالطلب فجلستْ خجلًا. في داخلي وقبل هنيهةً كنت أستنكر اغتصابها... غريبة هي الوحدة المعتادة والتي مهما اعتدناها نحتاج لدخلاء. هو ما زال في قلبي وفي واقعي خيالات وصرخات أوهام.
سمحتْ لضعفها بالتبدد استجمعتْ كلماتها وسألتني، من أنا؟ - هي الدخيلة السائلة - فاجتاز حاجز سكوتنا صوت مارسيل فقد اعتدتُ الاستيقاظ على صوته في الساعة التاسعة تمامًا، ازرَقَّ وجهها، ارتفعت نسبة الأدرينالين، شعرتُ بها مع بحة وعنفوان صوته. ضحكتُ وأخبرتها أنه المنبه لساعة الاستيقاظ وما من أحد يشاركني حياتي سوى أفكاري وأكوام الأوراق المبعثرة على تلك الطاولة المصكوكة بالذكريات. بدأتْ تدندن "سقطت كالورق الزائد أسراب العصافير"، صوتها غاية في الروعة، الجبل يقاسمها حبالها الصوتية والغابة تناصفها كثرة طيورها...
قد أجدتُ الاهتمام برفوف مكتبتي وأيقنتُ أن كل زاوية من زواياها تحمل لي بدايةً جديدة إلا الزاوية اليمنى من الرف الثالث فقد سمحت لكل الأغبرة الكونية أن تسلبه مني، - صورتنا سويا، في ربيع العام الماضي، أمام نهر الفرات العظيم - كنت أعجز عن حرق الصور التي جمعتنا ويتصلبُ الدم في عروقي في ظلال أن يكون يوم عيدي يوم زواله من حياتي فسمحتُ للأغبرة أن تكون الكفيل الوحيد للنسيان، هي تسترقُ النظر إلى زوايا غرفة الجلوس وأنا أخبرها من أنا.
يُطرق الباب، خوفها عاد وكأنها مطلوبة لإحدى الجهات الأمنية، وهذا ما اعتقدته للوهلة الأولى ولكنني تداركت جنون أفكاري بابتسامة، الساعة العاشرة والنصف. موزعُ الصحف اليومية فرغم كل التطور الذي حصل في الآونة الأخيرة مازلتُ من قارئيها، فلذة الاستمتاع بالخبر في الصفحات الباهتة ورائحة الحبر المتداخل مع نكهة القهوة نشوة لا أستطيع التخلي عنها.
هنا لا يوجد حرب، هنا أنا وأنتِ فقط، فليكن لقاؤنا هذا هادئًا. وكطفلة مدللة عند والديها هزت برأسها راضخة غير مجادلة.
وضعتْ الصحف على الطاولة المدورة والتي تحتل مساحة واسعة من الغرفة الشمالية الغربية ومارسيل ما زال يشاركنا كلماته ولكن على غير العادة فصوته يداعب سمعي وصوتها وهي تدندن الكلمات يتجذر في أعماقي، الساعة الآن الثانية عشرة. أعطيتها ملابس نظيفة واستأذنتها بالدخول للاستحمام، رأيتُ على وجهها ابتسامة الطمأنينة، دخلتْ وأقفلت الباب الذي لم يقفل أبدا بسبب الوحدة. جلستُ على الكرسي المقابل للساعة أعدٌّ دقائق وحدتي وكأنني أنتظره، دقيقة، اثنتان، عشرة، عشرون وستون، ساعة من الانتظار ويُفتحُ الباب... تخرجُ بابتسامةٍ تغتالُ وجهها لتنثرَ شظايا فرحٍ حقيقي وكأنها أميرة من أميرات ألف ليلة وليلة. سألتني أن تستخدمَ مطبخي، ذاك المكان الذي جعلته نساءُ الكون مستعمرتهنَّ الخاصة فيرفضن إدخال أنثى أخرى عليه كي لا تجعل كل أنثى لنفسها ندًا في خصوصيتها مع زوجها ولكنني لستُ كذلك، أذنتُ لها الدخول لأعود إلى أوراقي. هي تحضرُ الطعام ويصدحُ صوتها في أرجاء المنزل. ( وفي أرض السلام كل واحد منا يعيش وحدته كما يشاء، يخاف الاختلاط وهنا كنا كذلك... – لم تكن كلماتها بل كانت الرسالة الهاربة من قلبها لتطرق باب قلبي -).
تبادرَ لذهني وهي تحضّرُ الطعام، كم تحتاج أسرةٌ ممتدةٌ هاربةٌ من بدايات الحرب الدائمة من طعام! وكم أننا "إنسان" دون أرواح! فما الفائدة من وجودنا ونحن الذين بتنا بكل شيء ناقصين ما عدا الخيانات المتكاملة فبها دوما نتناجح!... هي مازالت في المطبخ وكلمات مارسيل بصوتها تضج أرجاء قلبي، أمسكتُ قلمي الناشف فلم أعد أستخدم الحبر لأثره على كل ملابسي حتى أنه بات تأشيرةً تجاريةً عليها وكتبتُ على الورقة الأولى كل ما أخبرتكم به سابقًا وهممتُ بإكمال حكايتنا قبل الانتهاء من تحضير الطعام الذي بات يفضح نفسه بتلك الرائحة التي تسللت إلى أنفي منتشيةً بها وقبل أن أسمح لها بتقييد شخوص الحكاية فلم أعتد الكتابة حسب أهواء أحد.
الرائحة لا تعني الطعم الرائع تماما كالحرب فالحرب لا تعني القتل، فقد تكون الحرب هي نزاعٌ داخلي بين عقلك وقلبك، المائدة جاهزة، الطاولة المدورة منسقة، الأزهار في المنتصف والصحون مرتبة بطريقة جميلة. سألتني الحضور للطعام... نظرتُ إلى إتقانها فن التحضير وهممتُ لسؤالها أين تعلمتْ ذلك وتذكرتُ أنها كاللبؤة تخاف على زوجها الرحيل فتصطاد له الطعام وهي أتقنت فن الابتكار لأجل ذلك. أكلنا سويا ومنذ سنوات لم يشاركني أحد ذلك وهنا أيقنتُ أن للطعام بوجود أحدٍ مذاقٌ مختلفٌ تمامًا.
الساعة الآن الثالثة عصرا. الأمطار في الخارج تطرق زجاج نافذة غرفة الجلوس لتعزف لنا موسيقى الناي الحزين، هي تقف أمامها محادثة طفلها في السماء، الرسائل الأرضية دوما تصل إلى السماء بسرعة. "طفلي... كل شيء تغير، هي في قمة الطيبة حتى أنني توهمتُها ملاكا وليست إنسانا ولكنها تأكل وتشرب مثلنا تماما وكل ما نقوم به تقوم به بحذافيره. عندما هربنا من أرض الحرب كنتُ يائسة، أعتقدُ أن السلام لم ولن يعم أرضنا مرة أخرى ولكن بات السلام مخصصا وتعميمه لا يروي العطاشى ماء إلا من البحر".
أنا أسمعها من وراء ضجيج عقلها ومخيلتها الدامية، قلمي ما زال بيدي وأكتبُ فكل ما أكتبه الآن دون تفكيرٍ بالنهاية. الباب يُطرق من جديد، باتت اغتصابات يومي كثيرة من وقت دخولها حتى الآن، هي لم تسمع الباب، أنا أنظر لمعالم وجهها وأفكر بأهمية النهوض لفتح الباب فقد يكون للغرباء من أيامي هذا اليوم نصيب، الباب يُطرق أخرى، ألملم أوراقي كي لا تسترقَ النظر إلى إحداهن فأضعهن في أحد أدراج المكتبة وألملم جسدي المتعثر مع السنين الماضية وأفتح الباب، ما من أحد وعلى الأرض هناك باقةُ زهورٍ ورسالةٌ صغيرة، حملتهما ووضعتها على الطاولة المدورة وفتحتُ الرسالة... فتحتُ الرسالة وجلستُ على الكرسي، محاولةً استيعاب ما يحصل.
نص الرسالة! أحدُ نصوصي قبل سنواتٍ كثيرة، كان نصا يدندنُ الحبَ ويداعبُ القلب، كنت قد كتبته وأنا في أوج حبي له، نصي وبقلم الحبر خاصتي الذي بات في أحد الصناديق الموضوعة في غرفة النوم. هو الوحيد الذي يملك هذا النص.
هروبُ الكاتب من نصوصه يعني خوفه من ماضيه وأنا كنتُ قد أحرقت جميع كلماتي ولم أعد أملك أي نصٍ يتحدث بعبثية عن الحب. هي مازالتْ تخاطبُ ابنها وكأنها دخلت في حوار الأحياء مع الأموات والذي يوهم الحي أنه لا موت على الأرض... أستجمعُ انكساراتي الماضية والتي توهمتُ بأنني تغلبتُ عليهم وأدخل غرفتي وأقفلُ الباب فأفتحُ صندوقي وأضعُ به تلك الورقة، عدةُ سطورٍ جعلتْ مني أنثى مكسورة من جديد بعدما عجز رجالٌ كثيرون بعده عن ذلك. هو لا يشبههم فكل رجل له فنُ خيانة مختلف.
أن تعترف لمن تحب بخيانةٍ جسديةٍ كاملة وعلى سريركما، أن يخبرك برغبة النسيان وأن تفشل النساء من بعدك وبعد الخيانة مشاركته لحظاته. فهذا يعني "اللامغفرة".