رئيس التحرير
عصام كامل

مفاهيم إسلامية.. الورع


بينما يجلس الشيخ الجليل أحمد بن حنبل متأهبا للفتيا، إذ أتته فتاة تسأل: "نعمل في نسج الخيوط، وبيعها أثوابا، فإذا جن الليل صعدنا فوق سطح المنزل نستعين بضوء القمر، وفي الليالي المظلمة نستضيء بضوء المشاعل التي يحملها عساكر الوالي.. فهل هذا حلال أم حرام؟".. واستغرب الحضور السؤال.. كيف يبلغ تحري الحلال هذا المبلغ من بشر؟! وإذ بالشيخ بن حنبل يسأل الفتاة: "ابنة من أنت؟"، فترد: "ابنة بشر الحافي".. فيقول الإمام: "منكم تعلمنا الورع يا آل بشر".


ولمن لم يعرف بشر..فهو الحارث بن بشر الحافي (رضي الله عنه) من التابعين، وكان شديد الثراء، مغرقا في اللهو..وبينما كان في لحظات تمتع بمغريات الحياة في قصره، وبين أصحابه، إذا بسائل يطرق الباب، وما إن فتح له الخادم، حتى بادره بالسؤال: "لمن هذا القصر المنيف؟".. قال: "لسيدي الحارث بن بشر"، ولم يكن قد أطلق عليه لقب "الحافي".. فسأل: "أحر سيدك أم عبد؟".. تعجب الخادم، لكنه أجاب: "بل حر".. فقال السائل: "صدقت، فلو كان عبدا ما فعل مايفعل".. وقفل راجعا من حيث أتى.

طرقت الكلمات الأخيرة آذان بشر، فانطلق وراء الرجل، فلم يعثر له على أثر.. والعجيب أنه لم يعد للقصر ثانية، فقد فهم المغزى من الكلمات، وأنها رسالة علوية ليكف عن المعاصي والملذات، ويبدأ رحلة العبادة، والتقوى، والورع، والزهد..وقد خرج حافيا، فظل طيلة حياته لم يلبس نعلا.. بل استمر على هيئته التي غادر قصره عليها إلى أن مات، تقيا.. زاهدا.. ورعا.. وأورث أهل بيته الزهد والورع.

لما حضرتْ عمرَ بن عبد العزيز الوفاةُ دعا بنيه وكانوا أحدَ عَشَرَ رجلًا، ولم يخلف غير بضع عشر دينارًا، فأمر أن يكفَّن ويُشْتَرَى له موضعٌ يُدفن فيه بخمسة دنانير، ويقصد المال على وارثيه، فأصاب كلّ ابن منهم نصف دينار وربع دينار، وقال: يا بني، ليس لي مال فأوصي فيه، ولكني قد تركتكم وما لأحد عندكم تبعة، ولا يقع على أحد منكم عين أحد إلا ويرى لكم عليه حقًّا.

فقال له مسلمة بن عبد الملك: أَوَ خير من ذلك يا أمير المؤمنين. قال: وما هو؟ قال: هذه ثلاث مائة دينار، فرِّقها فيهم، وإن شئت فتصدق بها، وأوص فيها بما شئت.

قال: أَوَ خير من ذلك يا مسلمة، تردُّها إلى مَن أخذتها منه، فإنها ليست لك بحقٍّ. ثم قال: إن ولدي أحد رجلين: فإما صالح فالله يتولَّى الصالحين، وإما فاسق فلا أحب أن أترك له ما يستعين به على معصية الله.

فقال مسلمة: يرحمك الله يا أمير المؤمنين حيًّا وميتًا، فقد ألنت لنا قلوبًا قاسية، وذكرتها وكانت ناسية، وأبقيت لنا في الصالحات ذكرًا.

فيقال: إنه ما رُئِي أحد من أولاد عمر بن عبد العزيز إلا وهو غني، ولقد شوهد أحدهم وقد جهز من خالص ماله مائة فارس على مائة فرس في سبيل الله تعالى، ولما حضرت هشام بن عبد الملك الوفاةُ خلف أحد عشر ابنا كما خلف عمر بن عبد العزيز، وأوصى، فأصاب كل ابن ألف ألف دينار، فقال: إنه ما رُئِي أحد منهم إلا وهو فقير!

يعرف الورع بأنه ترك بعض الحلال خشية الوقوع في الحرام.

وَروِيَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ قَال دَخَلْت عَلى أَمِيْرِ المُؤمِنينَ عَلِيٍّ بْنِ أَبِيْ طَالِب بعد مَا صَارَ إليْهِ الأَمْرُ فَإذَا هُوَ جَالِسٌ عَلى مُصَلى لَيْسَ في دَارِهِ سِوَاهُ فَقُلْتُ يَا أمِيرَ المُؤمِنينَ أَنْتَ مَلِكُ الاسْلامِ، وَلا أرَى في بَيْتكَ أَثاثًا وَلا مَتَاعًا، سِوَى مُصَلّى أنْتَ جَالِسٌ عَليه فَقالَ يا ابْنَ غَفْلَةَ إنَّ اللَّبِيْب لا يَتَأثَّثُ في دَار النُّقْلَة، وَأمَامَنَا دار هِي دَار المُقَامِ، وقَدَ نَقْلْنَا إلَيْهَا خَيْرَ مَتَاعٍ، وَنَحْنُ إلَيْهَا مُنْتَقِلُونَ.

وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ رَأَيْتُ عَلِيّا يَطُوْفُ وَبِيَدِهِ الدُّرَّةُ وَعَلَيْهِ إزَارٌ فِيْهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ رُقْعَةً بَعْضُهَا مِنْ جِلْدٍ.

وَمِنْ كَلامِهِ "رَضِيَ اللهُ عَنْه": ألا وَإن إمَامَكم قَد اكْتَفى مِن الدُّنْيَا بِطِمْريْهِ وَمِنْ طَعَامِهِ بِقُرْصَيْهِ، ألا وَإنَّكُم لا تَقْوَوْنَ عَلى ذلك وَلكن أَعِيْنُونِي بِوَرَع وَاجْتِهَاد، فو اللهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبرا، وَلا أحْرَزْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْرا.
ما أحوجنا إلى التأسي بهؤلاء، في زمان صار فيه الفساد قاعدة، والورع استناء.
الجريدة الرسمية