رئيس التحرير
عصام كامل

نص كلمة شيخ الأزهر للشعوب الأوروبية في باريس

 الدكتور أحمد الطيب،
الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف

افتتح الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، رئيس مجلس حكماء المسلمين، صباح اليوم الثلاثاء، فعاليات الملتقى الثاني للحوار بين الشرق والغرب بالعاصمة الفرنسية «باريس».


وألقى الإمام الأكبر، كلمةً للشعوب الأوروبية، وفيما يلي نص خطاب شيخ الأزهر:

«بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصــلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.

السـادة الأجـلاء من أهل العلم والفكر والسياسـة ومن رجال الدين
الســــلام عليكـــم ورحمـة الله وبـــركاته؛
فيسرني باسمي وباسم مجلس الحكماء أن أرحب بكم هنا على أرض فرنسا وفي عاصمتها العريقة، عاصمة الأدب العالمي والفكر الحر، ومهد الثورة الكبرى التي انطلقت من أرضها الثائرة على الظلم والقهر، منذ أكثر من قرنين، وبإرادة شعبها الذي حرر أوروبا من أغلالٍ وقيودٍ كبَّلتها قرونًا طوالا، واستعبدتها مرة باسم السلطان، وأخرى باسم الدَّين، وثالثةً باسم الإقطاع، حتى باتت الثورةُ الفرنسية مَعْلمًا من أهم معالم التاريخ ومرجعًا لفلسفة الحرية والحضارة، وتنوير العقل الأوروبي وانتشاله من طَورِ الرُّكود والجمود إلى التحليق عاليًا في آفاق الإبداع والعلم والثقافة والفنون.. وحتى باتت أوروبا المعاصرة بكل ما تَزخَرُ به من تقدم مذهلٍ في العلم والمعرفة والرقي الإنساني، والديمقراطية وحقــوق الإنســـان، مدينة للثــورة الفرنسية، ولفرنسا والفرنسيين.. فتحيةً لهذا البلد، وتحيـــةً لأهله، ولكلِّ محبي الســلام والعدل والمســاواة بين الناس.
أيها الســــادة!
هذا هو اللقاء الثاني بين حكماء الشرق وحكماء الغرب.. بعد اللقاء الأول الذي عُقد في مدينة فلورنسا، مدينة الحوار والفن والثقافة: في الثامن من يونيو من العام الماضي (8 يونيو 2015م)، والذي أظلَّه –حينذاك- أملٌ قويٌ في ضرورة أن يبحث حكماء الغرب وحكماء الشرق عن مخرج من الأزمة العالمية التي وصفْتُها في كلمتي في فلورنسا بأنها «إن تُركت تتدحرج مثلَ كرة الثلج فإن البشرية كلَّها سوف تدفع ثمنها: خرابًا ودمارًا وتخَلُّفًا وسَفْكًا للدِّماء؛ وربما بأكثر مما دفعته في الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن الماضي»، ولم تمضِ شهور ستَّة على هذا التخوَّف الذي شابته مسحة من التشاؤم، ربما غير المشروع، حتى شهدتْ باريس الجميلة المتألقة، ليلةً سوداء، فَقَدَت فيها من أبنائها قَرابةَ مائة وأربعين ضحية، سُفِكَت دماؤُهم في غَمْضةِ عين، إضافة إلى ثلاثةِ مائة وثمان وستين آخَرين، في حادثة إرهاب أسود لا يختلف اثنان في الشرق ولا في الغرب في رفضه وازدراء مُرَّتكِبِيِه، وتنَكُّبهم للفطرة الإنسانية والطبيعة البشرية وكل تعاليم الأديان والأعراف والقوانين..

ولعلكــم تتفقــون معي في أن هذا الحادث الأليم، ومثلُه حوادثُ أخرى دموية وقعت في بلجيكا، بل حوادث أشدُّ دمويةً وأكثر وحشيةً، تحدُث كل يوم في الشرق الذي غَرِقَ إلى أذنيه في مستنقعات الدَّمِ والثُّكْل واليُتْم والتهجير، والهروب إلى غير وِجْهةٍ في الفيافي والقفار، بلا مأوى ولا غِذاءٍ ولاَ غطاء..

هذه الحوادثُ تَفرِضُ فرضًا على أصحاب القرار النافذ والمؤثرِ في مجريات الأحداث، أن يتحملوا مسئولياتهم كاملةً أمامَ الضَّمِيِر العالمي والإنساني، وأمامَ التاريخِ، (بل أمام الله يوم يقوم الناس لرب العالمين)، في أن يتدخَّلُوا لصد هذا الإرهاب العالمي، ووقف حمامات الدماء المسفوكة وأكوام الأشلاء المتناثرة من أجساد الفقراء والمساكين، وأطفالهم ونسائهم، والتي يقدِّمونها كل يوم قرابينَ على مذابح العابثين بمصائر الشعوب، والغافلين عن قِصاصِ السَّماءِ وعدالتها، التي قد تُمهل قليلًا، لكنها بكلِّ تأكيدٍ لا تُهمِلُ ولا تنسى.. وفي هذا السياق تلزم مطالبة العالم أيضًا بالتصدي لمحاولات تهويد أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، المسجد الأقصى المبارك، وحل القضية الفلسطينية حلا عادلًا شاملًا، لأن حل هذه القضية –في نظرنا-هو مفتاح المشكلات الكبرى التي تعيق التقاء الشرق بالغرب، وتباعد ما بين الشعوب، وتؤجج صراع الحضارات.

أيها الحكمــاء الأجـــلاء..

لم يعد أيٌّ من الشرق والغرب اليوم بمَعْزِلٍ عن الآخَر، كما كان الحالُ في القرن الماضي، ولم يعد الشرقُ هو هذا المجهول المُخيف، الذي تترامى أطرافُه فيما وراء البحارِ كما كان يتصوَّرُه الغربيون من قبل، كما لم يعد الغرب هو النموذج الغريب الذي يستطيع الشرقيون من مسلمين ومسيحيين أن يتجنبوه، ويُغلِقُوا أبوابهم دونه، ليستريحوا من خَيرِه أو شرِّه، فقد تقارب ما بينهما، وانطوت مسافةُ البعدِ وتلاشتِ الحواجزُ، وهاجر المسلمون واستوطنــوا الغــربَ، ولم يعُد لهم من وطن غيرُه، وهاجرت فلسفات الغرب السياسيةُ والاجتماعية وأنماطُ حياتِه اليومية واستوطنت عقـــولَ المسلمين، فأثَّــــرت في رؤاهُم وأنظارهم، وسيطــــرت على مساحة –لا يستهان بها- في مناهج تفكيرهم وطرائق سلوكهم وتصرُّفاتهم، ولا تزال المذاهب الاجتماعية الغربية كاللّيبرالية، والقومية، واليسارية تعمل عَمَلَها في أذهانِ كثيرٍ من المفكِّرين والسياسيين الشرقيين، ربما بأقوى ممَّا تعملُ في أذهان أهلها من الغربيين، بعد أن بدأت هذه المذاهب تتراجع في الذهنية الغربية بتأثير العولمة، التي تُبشِّرُ العالَم بل تَسُوقُه بفلسفة النواة والمركز والأطراف، والتي لا تَسمحُ بتقسيم العالم إلى شرقٍ وغربٍ، يتميز كل منهما عن الآخَر بثقافته، وحضارته، وأكاد أقول: بِدينِه وِلغته.. وفيما أعتقد فإن هذه العولمة لا يمكن أن تكون حلًا لعلاقات التوتر والتربص المتبادلة بين الشرق والغرب، أو تُشكِّلُ خطوة على طريق التقائهما وتعاونهما من أجل تحقيق السلام العالَمي، وتوفير السعادة للإنسانية جمعاء.. بل هي بكلِّ تأكيد مرحلةٌ جديدةٌ على طريق الصِّراعِ العالمي، بما تتأبَّطه من تدمير لهُويَّاتِ الشعوب وخصائصها التي خَلَقَها الله عليها، والتي لا يمكن لأيً شعب منها أن يُفرِّطَ فيها قبل أن يفرط في حياته وكل ممتلكاته.

ولا مَفَرَّ –أيها الحكماء الكبار-من التفكير في «العالمية» بدلًا من «العولمة»، وهي العالمية التي عبَّر عنها شيوخ الأزهر -في القرن الماضي بعد الحربين العالميتين -بالزمالة العالمية أو التعارف، كحَلٍّ لانقسام العالم وتكريس الثُّنائيات الحادة التي تنهج الصراع وتُشعِلُ الحروب.

ويطول الحديث في بيان «عالمية الإسلام» ونظرته للعالم كله على أنه مجتمع واحد، تتوزع فيه مسئولية الأمن والسلام فيه على جميع أفراده، وقد يلخص ذلك ما يحضرني في هذا المقام من حديث لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم يقول فيه: «مَثَلُ القَائِم في حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينَةٍ، فَأَصابَ بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذين في أَسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقا ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا؟ فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعًا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعًا».

ولا ينبغي أن يقتصر فهمنا لحدود الله في الحديث بالمعنى الضيق الذي ينطبق على المجتمعات الإسلامية، وأعني به الأحكام الشرعية الفقهية، بل ينبغي فهم هذه الحدود بالمعني الأعم الذي يؤكد مبدأ «العالمية» في الإسلام، فكما لله حدود شرعية جزئية، فله أيضًا حدود كونية على هذه الأرض، في مقدمتها: العدل والمساواة بين البشر، وتقرير الأخوة بينهم؛ لأنهم جميعًا يلتقون في أب واحد وأم واحدة، وأن ما بينهم من فروق واختلافات فطرهم الله عليها هي اختلافات التنوع والتعارف والتآخي، وأن من يخرج منهم على حدود الله في كونه فعلى الباقين أن يأخذوا على يديه، وإلا فسوف تغرق سفينة الإنسانية ويكون مصيرُها الهلاك والدَّمار، وهذا ما يخشاهُ ويحاذِرُه عُقلاء السياسة وأرباب العلم والفكر –الآن- شرقًا وغربًا.

على أن العالمية التي نتطلع إليها كبديل عن «العولمة » لإنقاذ العالم من المآسي التي يتردى فيها شطره الشرقي: الأوسط والأقصى – تفرض علينا نحن الشرقيين إعادة النظر في فهمنا للغرب وتقييم حضارته، واكتشاف ما يسكن هذه الحضارة من قيـــم إنسانية مشتركة، لا يتفاضل فيها شرق ولا غرب، وكذلك توظيف المشترك الإنساني في علاقات دولية تقوم على التعاون وتَجنب الحروب، وأن تكون نظرتنا الحديثة للغرب نظرة موضوعية تتأسس على مبدأ التأثير والتأثر، وفلسفة التعارف والتكامل، وتطبيق القاعدة الذهبية في أمر العلاقة بين المسلمين وغيرهم في الوطن الواحد، والتي يحفظها التلاميذ في المدارس، وهي قاعــدة: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا».

أيُّهَــا الإِخـــوة!

يَضِيقُ الوقت المُحَدَّد لكلمتي هذه عن بيانِ القضيَّة التي أراها مدخلًا مناسبًا لالتقاء الشرق بالغرب، وأعني بها قضية «اندماج المسلمين» في أوطانهم الأوروبية، وانفتاحهم على مجتمعاتهم، التي وُلدوا فيها وصاروا جزءًا لا يتجزأ من نسيجها الوطني بكل أبعاده الاجتماعية والثقافية والسياسية، لكنها أصبحت تُشَكِّلُ عقبةً على طريق المواطنةِ الكاملةِ الَّتِي تُمثِّلُ عنصرَ ثراءٍ وقوَّةٍ للمجتمع الأوروبي.

وقد خضعت ظاهرة «الاندماج» الإيجابي هذه لدراسات عدة، وعُقد من أجلها أكثر من مؤتمر، وكتب فيها الكثير من المقالات والكتب، وكلها ترصد تردُّدَ كثيرٌ من المسلمين عن الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة، خوفًا على هُويتهم الدِّينية من الذوبان، وأيضًا توجُّس المجتمع الأوروبي من تفكُّكِ مكتسباته الحضارية إذا ما فتح الأبواب للمختلفين عنه دينًا وثقافة، وقد رصَدَ المُحَلِّلون بعض العقبات على الجانبيين: الإسلامي والأوروبي، لا تزالُ تعملُ عملها في إقامة الحواجز والفواصل، والتهميش الذي كان أحد الأسباب في انضمام كثير من الشباب الأوروبي المسلم إلى حركات العنف والإرهاب المُسَلَّح.

وتأتي في مقدمة معوقاتِ الاندِمَاج من جانبِ المسلمين-الانتماءاتُ الإقليمية والولاءات العِرقيَّة والاختلافات الطائفية والمذهبية، التي تلازمهم في أوروبا ملازمة الظل، وتجعل من الصعب عليهم الانخراطَ في مجتمعاتهم، بل كثيرًا ما تصعِّب عليهم الاختلاطَ بغيرهم من المسلمين الذين يعيشون معهم ويعتقدون معتقدهم، لكنَّهم لا ينتمون إلى إقليمهم، ولا ينتسبون إلى هويتهم العرقية والطائفية،.. ومن أهم المعوقات من جانب المسلمين أيضًا هذه الدعوات التي يُطلقها البعض باسم الدين وتدعوا إلى مفاصلةِ المجتمع الأوروبي نفسيًّا، والاقتصار في مخالطته على الضَّرورات.

وعلى الجانب الأوروبي تأتي، في مقدمة هذه العقبات، المواد الإعلامية السلبية التي تسيء للمسلمين، وتصورهم للشارع الأوروبي على غير حقيقتهم، ومن ذلك الرسوم المسيئة لنبيهم –صلى الله على وسلم-عن وعي وقصد وجهل تام بمكانة الدِّين ومنزلة الأنبياء في قلوب المسلمين شرقًا وغربًا، والخلط بين الصورة الحقيقية للمجتمعات الإسلامية الشرقية، وبين ما يحدث في مناطق الصراع والتوتر من صُور الدماء والأشـلاء، ومما يرصده الباحثون من عوائق على هذا الطريق تسييس الوجود الإسلامي في أوروبا، والمضاربة به في بورصة الانتخابات لجذب مزيد من الأصوات مما ينعكس سلبًا على علاقات الأوربيين بمواطنيهم.

لذلك أقترح أن تكون قضية «الاندماج الإيجابي»، هذه هي موضوع اللقاء التالي، وهو اللقاء الثالث بين حكماء الشرق والغرب، في المكان والزمان اللذين يعلن عنهما فيما بعد، إن شاء الله.

وإلى أن نلتقي -بإذن الله تعالى -حول هذا الموضوع أدعو المواطنين المسلمين في أوروبا إلى أن يعوا جيدًا أنهم مواطنون أصلاء في مجتمعاتهم، وأن المواطنة الكاملة لا تتناقض أبدًا مع الاندماج الذي يحافظ على الهوية الدينية، ولكم –أيها المسلمون الأوروبيون – في أنموذج المدينة المنورة بقيادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-الأسوةُ الحسنة، حيث أسست وثيقة المدينة، وهي أول دستور عرفته الإنسانية، أسست مبدأ المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين المختلفين دينـًا وعرقــًا.

هذا ولا ينبغي أن تكون بعض القوانين الأوروبية التي تتعارض مع شريعة الإسلام حاجزًا يؤدي إلى الانعزال السَّلبي، والانسحاب من المجتمع، فهذه القوانين لا تفرضها الدولة على الناس – وإذا ألزمت بعضُ القوانين المسلمين بما يخالف شريعتهم فعليهم حينئذ الالتزام التام باللجوء إلى القوانين التي تكفُلُ لهم حق التضرر من هذه القوانين والمطالبة بتعديلها.

وكلمة أخيرة أوجهها إلى الدعاة الأئمة وكل من يشارك في خطابات المسلمين وإرشاداتهم هنا في أوروبا: أنه قد آن الأوان لأن ننتقل من فقه الأقليـــات إلى فقـــــه الاندماج والتعايش الإيجابيين.. وعليكم أن تتذكروا -وتذكروا-قواعدنا الفقهية الجامعة، التي تقرر أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص، وأن التكليف بحَسبِ الوسع، وأن دين الله يسر، وأن المشقة تجلب التيسير، وأن الأمر إذا ضاق اتَّسَع، وأنه لا تحريم مع الاضطرار، ولا وجوب مع العجز، والمؤمن مُلْزَمٌ بوفاء العهود والعقود.. ولا دِينَ لمن لا أمانة له.. واعلم أيها المسلم في كل مكان أن الناس إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الإنسانية».

الجريدة الرسمية