وباء الفساد يعجل بخراب الاقتصاد السوري
رغم دمار الحرب لا يزال الاقتصاد السوري ينبض ببعض الحياة، لا سيما في القطاع الخاص، لكن وباء الفساد الحكومي يهدد وعوامل أخرى بالقضاء على ما تبقى من صناعة وزراعة.
لعل أول ما يصدم زائر دمشق في ظل الهدنة العسكرية السارية المفعول حاليا، هو جنون الأسعار على وقع التدهور الذي حدث مؤخرا في سعر الليرة السورية تجاه الدولار الأمريكي، فخلال شهر أبريل الماضي ارتفع سعر الدولار من 500 إلى نحو 640 ليرة سورية.
هذا التدهور السريع أشعل مجددا نار أسعار بعض المواد الأساسية وأوصلها إلى مستويات خيالية بالنسبة لأصحاب الوظائف والفئات المتوسطة، وعلى سبيل المثال وصل كيلو الأرز إلى 700 ليرة والسكر إلى 450 ليرة والشاي إلى 4 آلاف ليرة والقهوة إلى 3 آلاف ليرة والحمّص إلى 500 ليرة والقميص المتوسط الجودة إلى 8 آلاف ليرة والحذاء السوري إلى 13 ألف ليرة في النصف الثاني من أبريل.
ويقول التاجر الدمشقي حسان الخطيب: هذه الأسعار تزيد أكثر من عشر مرات على أسعار ما قبل الأزمة التي اندلعت في مارس 2011، يومها كان سعر السكر الحر بنحو 30 ليرة والحمَص بحولي 40 ليرة والقميص الجيد بحدود 800 ليرة.
وإذا كان متوسط دخل الموظف السوري لا يزال بحدود 20 إلى 25 ألف ليرة يمكن للمرء أن يتصور مدى التدهور المريع في مستوى معيشة السوريين الذين لم ترتفع معدلات أجورهم اسميًا سوى بنسبة 15 إلى 25 خلال السنوات الخمس الماضية.
وأدت الحرب الأهلية إلى تهديم وتخريب البنية التحتية والصناعية لا سيما في مناطق حيوية للاقتصاد السوري مثل حلب وريف دمشق.
أما في دير الزور والجزيرة السورية فسيطر تنظيم داعش الإرهابي وجماعات مسلحة أخرى على النفط السوري، وفي عموم سوريا تدهور إنتاج الكهرباء إلى الثلث بسبب نقص الوقود وتخريب شبكات نقل مصادر الطاقة ومحطات التوليد من قبل جماعات مسلحة وإرهابية.
وبفعل الحرب فقد الاقتصاد السوري بحلول عام 2014 نحو ثلثي ناتجه المحلي الإجمالي الذي وصل إلى 60 مليار دولار عام 2010 حسب تقرير أعدته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب «آسيا/ الإسكوا»، ومع استمرار الحرب حتى يومنا هذا يتوقع تكبده المزيد من الخسائر التي قدرت مؤخرا بأكثر من 200 مليار دولار وفق تقديرات سورية وأممية أولية.
وما سلم حتى الآن من نار الحرب تعبث به أيدي الفاسدين في مؤسسات الدولة وتجار الحرب المتواطئين معهم أو الذين يعملون في إطار جماعات مافيوية الطابع خاصة بهم، فالفاسدون في دوائر المعاملات الشخصية والتجارية لهذه المؤسسات يحولونها في ظل غياب شبه تام للرقابة إلى مرتع مخيف للرشوة واقتناص العمولات، وهذا ينعكس بشكل كارثي على المواطن أو التاجر أو الصناعي ممن لديه معاملة في هذه الدوائر.
أما حجم الرشوة فيختلف حسب أهمية الوثيقة المطلوبة، وإذا كانت معاملة أحوال شخصية تتطلب عادة دفع 200 إلى ألف ليرة إضافية كرشوة، فكيف بالصفقات التجارية التي تقدر قيمتها بالملايين؟ وكلما زاد سعر الرشوة انعكس ذلك ارتفاعا في سعر البضاعة على المستهلك الذي يتحمل هذه الزيادة.
وعندما يشتمّ التجار المضاربون وفي مقدمتهم تجار الجملة رائحة تفيد ارتفاع جديد في سعر الدولار فإن أول ما يقومون به هو إخفاء البضاعة واحتكارها في مخازنهم أملا في جني المزيد من الأرباح لاحقا، فعلى سبيل المثال ارتفع سعر كيلو التمر من 600 إلى 900 ليرة خلال أقل من ثلاثة أسابيع مؤخرا، وهو الأمر الذي يجعل سعرها أصعب فأصعب على المستهلك ذي الدخل المحدود ويحرمه منها.
إضافة إلى الفاسدين وتجار الحرب، تبعات العقوبات الاقتصادية العربية والغربية على الاقتصاد السوري تبدو كارثية، لا سيما أن علاقاته مع إيطاليا وألمانيا وفرنسا وتركيا والخليج كانت الأهم بالنسبة للتجارة مع الخارج.
فالعقوبات التي فرضت بحجة ممارسة الضغط السياسي على الحكومة السورية، منعت التحويلات المالية بغض النظر عن قيمتها حتى على الصعيد الشخصي عبر النظام المالي السوري، وهو الأمر الذي يدفع التجار والصناعيين للجوء إلى طرق تمويل عبر وسطاء في لبنان ودول أخرى لاستيراد مستلزمات إنتاجهم وبضاعتهم بتكاليف أعلى يتحملها المستهلك السوري على حد قول تاجر حلبي يعمل في بيروت حاليًا.
وهناك حالات لا يتمكن هؤلاء فيها من توفير البضاعة لا سيما إذا كان استخدام المواد المطلوبة متعدد الأغراض بحيث يمكن استخدامها لأغراض عسكرية والمشكلة أن العقوبات تصيب دائما الناس العاديين أكثر من أصحاب السلطة والمال الذين يتدبرون أمرهم عن طريق المهربين.
وقال التاجر: «تصور أنك لا تستطيع عن طريق البنك أو البريد إرسال ثمن حتى علبة دواء من أوروبا لأمك المريضة في سوريا بسبب هذه العقوبات الغبية وما يزيد الطين بلة، هو استمرار احتكار تجارة بعض المواد مثل مصادر الطاقة بالدولة أو بعدد محدود من التجار أصحاب النفوذ الذين بإمكانهم احتكارها وفرض السعر الذي يناسبهم عليها».
أما على صعيد التصدير فإن الحرب والعقوبات أغلقت جميع المنافذ تقريبا على المنتجات السورية لا سيما الزراعية والنسيجية منها، الأمر الذي يحرمها من أسواقها التقليدية في العراق والخليج، وتحل الكارثة الأكبر بالمزارعين السوريين في موسم ذروة إنتاج محاصيل معينة كالطماطم الحورانية والبطاطس الحموية من محافظة حماة والحمضيات الساحلية.
وكمثال على ذلك لا تزال حتى يومنا هذا مئات الآلاف من أطنان البرتقال والحمضيات السورية الأخرى للموسم الحالي على الشجار ولم يقطفها المزارعون بسبب استحالة تصديرها، وتلفها على الأشجار التي تحملها يعني إفقار عشرات الآلاف من الأسر السورية التي تنتظر الموسم من عام لآخر.
وفي الوقت الذي تستمر فيه الحرب والعقوبات ووباء الفساد، يستمر إفقار السوريين حتى من تبقى من فئاتهم الوسطى، وهو الأمر الذي يدفعهم للبحث عن سبيل للخروج من بلدهم والهجرة.
أما هدفهم ووجهتهم الأحب فلا يزال ألمانيا رغم القوانين والعراقيل التي صعبت عليهم التوجه إليها، ففي جامعة تشرين بمدينة اللاذقية على سبيل المثال تلقى في كل كلية أو مركز بحثي قسما كبيرا من الأساتذه الباحثين عن سبل هجرة وعمل لهم أو لأبنائهم في بلدهم المفضل ألمانيا.
وحتى الكفاءات ورجال الأعمال السوريين العاملين والمقيمين في الخليج وتركيا فإنهم يحاولون بشكل متزايد وبشتى السبل الوصول إلى ألمانيا بهدف ضمان بناء مستقبل لهم ولعائلاتهم، إن استمرار وضع كهذا سيفرغ سوريا من كفاءاتها في مختلف المجالات، أما بلدان أخرى مثل ألمانيا فلديها فرصة نادرة للاستفادة من هذه الكفاءات في مجالات الطب والهندسات والأعمال الحرفية.
هذا المحتوى من موقع دوتش فيل اضغط هنا لعرض الموضوع بالكامل