الضبعة بين الضرورة والواقع
سنعود بالزمان إلى فترة رئاسة الرئيس جمال عبدالناصر لمصر، وتحديدا في عام 1955 ، حيث تم تأسيس هيئة الطاقة الذرية، والتفكير في إنشاء أول مفاعل نووي مصري، إلا أن الحرب المصرية- الإسرائيلية بعد نكسة 1967 جعلت الفكرة تتعثر كتطبيق أو اهتمام بسبب ظروف البلاد.
وفي عام 1981 أصدر الرئيس السادات قرارا جمهوريا بتخصيص منطقة الضبعة في محافظة مطروح، لإقامة أول محطة نووية في مصر، وفي عام 1983 تم طرح مناقصة عالمية لاختيار الشركة المنفذة للمشروع، لكن انفجار مفاعل تشيرنوبل في الاتحاد السوفيتي عام 1986 خلف انطباعا سيئا عن المفاعلات النووية والأضرار الإشعاعية التي قد تسببها، مما أدى إلى تجميد المشروع المصري مرة أخرى.
في عام 2007 أعلن الرئيس محمد حسني مبارك استئناف المشروع النووي المصري، ولكنه تعرض المشروع لجدال مجتمعي حول ملائمة الضبعة للمشروع وآثارها البيئية والسكانية، وطرح بدائل للمكان.
عام 2009 تم التعاقد مع شركة أسترالية لتقييم المكان لإنشاء المحطة النووية، وبالفعل تم الموافقة على الضبعة كمكان مناسب للمحطة، غير أن الحكومة لم تبدأ أي خطوات تنفيذية لإقامة المحطة حتى قامت ثورة يناير، وأغلق ملف المحطة لأسباب أمنية واقتصادية طاحنة مرت بها البلاد، ومازالت تعاني منها حتى الآن.
في أكتوبر 2012 وأثناء زيارة الرئيس محمد مرسي لمحافظة مطروح أعلن أنه سيتم إقامة المحطة، لكنه لم يظل في الحكم إلا لعام واحد، لإكمال ما أعلنه.
في عام 2013 أعلن الرئيس المؤقت عدلي منصور، عن تدشين مشروع إنشاء محطة نووية للاستخدامات السلمية للطاقة في الضبعة، فقط تدشين لأنه رئيس مؤقت.
في العام الماضي وتحديدا في فبراير 2015 تم توقيع الاتفاقية الحكومية بين مصر "هيئة المحطات النووية"، وروسيا "شركة روز أتوم" العاملة في مجال بناء المحطات النووية، والتي سيتم بمقتضاها إنشاء محطة الضبعة النووية المصرية في محافظة مطروح.
في كل مرة يتم الاتفاق على إنشاء المحطة تؤجل الحكومة تنفيذ المشروع، بما يتلائم مع وضع البلاد الأمني والاقتصادي والإقليمي، يتم التأجيل طبقا لما تفرضه الأولويات، وما يحتمه المتاح من الجانب المصري، ووفقا لمصلحة الدولة وشعبها، وما تتطلبه ضرورة التنفيذ الفوري أو التأجيل بما يتوافق مع الوضع الراهن.
بلا شك تحت بند "الأمان والضرورة" يجب أن تتمحور فكرة المحطة النووية المصرية، ولا ننكر أن محطة الضبعة تأتي كبرنامج نووي سلمي لتوليد الكهرباء وتحلية مياه البحر، كبديل مهم ومواكب للتطور العالمي لتوليد الطاقة، الذي يجب مقارنته بوسائل الطاقة المتجددة العالية التقنية والمكلفة ماديا أيضا، وهنا يعنينا عدة تساؤلات يفرضها الواقع المحلي والإقليمي بل والعالمي أيضا الذي يؤثر تأثيرا مباشرا على الوضع الاقتصادي المصري.
لو تناولنا الوضع الإقليمي والعالمي نجد عالما يسوده الإرهاب والوضع الأمني أصبح مهددا بشكل خارج السيطرة، حتى في الدول العظمى التي من المفروض إحكام قبضتها الأمنية على أعلى المستويات التقنية، نجدها تقف عاجزة أمام يد الإرهاب وما تسطيع أن تطاله من تخريب.
أما الوضع الداخلي أو المحلي فغير مطمئن لإنشاء مثل هذه التقنية الخطرة في طاقتها، والمكلفة جدا في إنشاؤها أو طرق تأمينها.
لا ننكر أن بمصر علماء قد تم الاستفادة منهم عالميا ودوليا في جميع المجالات، ولكن ليس فقط بالعلم تنشأ المحطة النووية، نحتاج لخبرات بشرية مصرية، تستطيع إدارة مثل هذه المحطات، نحتاج كفاءات مصرية مدربة على أعلى المستويات التقنية والتكنولوجية، فإذا قدم وأتاح الجانب الروسي العامل البشري والتقني فماذا شاركت مصر في مشروع مهم كمشروع الضبعة على أراضيها !
ولنذكر أن إنشاء مشروع ضخم كمحطة الضبعة يحتاج قطاعات أخرى لدعمه وتثبيت أساساته، منها المطافئ التي تفشل في إخماد الحرائق بوصولها المتأخر عادة، وعدم مواكبتها لتقنيات الإطفاء الحديثة العالمية، من حيث الأدوات والتدريب المهني العالي للقوى البشرية.
كما يحتاج قطاعا أمنيا محكما، وهي ما تفتقده مصر في الوقت الراهن، فالعمليات الإرهابية تحدث على حدود البلاد وبداخلها وفي مطاراتها وعلى طائراتها، مما جعل السياح تهجر مصر، مما تسبب في غلق منفذ النقد الأجنبي لمصر.
أهم ما يحتاجه هذا المشروع الضخم هو الإمكانية المادية أيضا، التي لا تتوفر في الوقت الحالي لمصر، بل تتعثر مصر اقتصاديا كل يوم عن سابقه، فيزيد التضخم ويزيد الدين الخارجي، مما يضع مصر رهن الانهيار الاقتصادي التي تقاومه بمساعدات خليجية مادية أو قروض، ومعونات بترولية ذات فائدة طويلة الأجل، أثناء هذا الوضع العام المتردي اقتصاديا يتم اقتراض 25 مليار دولار من روسيا لإنشاء محطة الضبعة النووية!
متسائلين بسذاجة رجل الشارع:
أين أولويات الحكومة، وأين بدائلها، بل أين الحكمة في أسبقية مشاريعها، وهل توافر النقد الأجنبي لسد العجز، أم لقروض جديدة بفوائد تثقل الكاهل المصري بل تجعل الاقتصاد يتهاوى بسرعة فائقة غير مدروس عواقبها أم غير مبالين بتوابعها !