السلطة والجامعة (6)
الحقيقة أن قاسم أمين كان عند حسن الظن به وخيب توقعات كل من ظن أن الضغوط التي كان يواجهها من المتشددين والمحافظين ستعوقه عن إحياء حلم الجامعة وكان إيمانه وجهده الدءوب هما السلاح الذي استخدمه في تحقيق المشروع ولا أبالغ إذا قلت إنه في رأيى الخاص مما جمعت من مصادر أن عام 1907 كان أهم الأعوام في إنشاء الجامعة المصرية.
كان قاسم أمين شديد النشاط مقدرًا لعامل الوقت فوضع خطة بمجرد توليه المسئولية للتنفيذ بدأت بالاجتماع الثالث في بيت محمد بك عثمان أباظة يوم 10 ديسمبر 1906، حيث تم الاتفاق على أن يكون الاجتماع أسبوعيًا بعد ذلك بعد ظهر كل خميس وتحديد مكان عام وموحد للاجتماعات، وتم اختيار مقر نادي طلبة المدارس العليا بالأزبكية نزولا على اقتراح محمد بك فريد، وكان مصطفى كامل قد أسس هذا النادي ليجمع طلبة المدارس العليا من كل الأحزاب ويرعى نشاطهم على هامش النضال الوطنى من أجل الاستقلال وأصبح هذا النادي نواة لإنشاء النادي الأهلي في 1908..
تم تشكيل لجنة من حفنى بك ناصف ومرقس أفندى حنا وعلى بك فهمى لوضع مشروع لائحة داخلية... واستطاع حسن بك سعيد، وكيل البنك الألمانى الشرقى، أن يحصل على عرض للجامعة بفتح حساب للاكتتاب بقائدة مميزة جدا وقتها (4% مع 1.5% دعم من البنك واكتتاب سنوى بمبلغ 40 جنيها).. وقد تلقى المشروع دفعة قوية بتبرع سيف الله باشا يسرى بألفي جنيه وكل من الدكتور محمد باشا علوى والبرنس عزيز باشا حسن بألف جنيه، ووصل إجمالي ما تم جمعه حتى ذلك اليوم 16536 جنيها، وفى الاجتماع التالى يوم 5 يناير 1907 قررت الجمعية توسيع مجلس الإدارة إلى 25 عضوًا على مراحل فتم انتخاب الدكتور محمد باشا علوى ويوسف بك صديق في تلك الجلسة....
على الجانب الآخر كانت جهود قاسم أمين وغيــره من أعضاء مجلس الإدارة ترنو إلى الحصول على رعاية ودعم الخديو عباس حلمى الثانى حتى تحقق المراد وأعلن قاسم أمين في جلسة 19 يناير 1907 موافقة الخديو على رعاية المشروع وأن يكون سمو ولى عهده رئيسًا شرفيًا لها وأوحى ذكاء قاسم أمين وبعد نظره إليه بتركيز الجهود حول ولى العهد الأمير أحمد فؤاد الذي عرف عنه دعمه العلم حتى يقبل الرئاسة الفعلية لمجلس إدارة الجامعة فلما أحس منه عدم ممانعته وجه إليه خطابًا رسميًا في 23 ديسمبر 1907 جاء فيه:
"دولة أفندم الأمير أحمد فؤاد باشا.. لما عرضت أمس على أعضاء لجنة إدارة الجامعة ما تفضلتم به دولتكم من العناية بأمر الجامعة والاستعداد لتعضيد مشروعها قابلوا هذه البشرى بالسرور ووثقوا بالفوز القريب وقرروا إيفاد وفد منهم لتقديم الشكر لدولتكم وهم محمد علوى باشا ويوسف صديق باشا وحفنى بك ناصف وحسن بك سعيد فإذا تكرمتم بقبولهم أرجو إخبارى باليوم والساعة اللذين تتفضلون بتحديدهما لذلك وأرجو قبول احترام عبدكم الخاضع.. إمضاء قاسم أمين".
وقد التقى الوفد الأمير في قصره وفي يوم الجمعة 31 يناير 1908 اجتمعت الجمعية العمومية وأعلن قاسم موافقة ولى العهد الأمير أحمد فؤاد على رئاسة مجلس الإدارة وكانت هذه نقطة التحول في إنجاز مشروع الجامعة.
وفى 1907 أيضًا أعدت اللجنة المشكلة من حفنى بك ناصف ومرقس أفندى حنا وعلى بك فهمى أول مقترح بلائحة والتي تم التصديق عليها في جلسة 9 فبراير 1907 ضمت اللائحة هيكل مجلس إدارة يشبه كثيرًا نظام مجالس الأمناء الذي تتبعه الكثير من الجامعات الغربية الآن ويتكون من 25 عضوا تنتخب الجمعية العمومية منهم 15 باقتراع سرى مباشر ويقترح الــــ 15 المنتخبين أسماء الـــ 10 الباقين حتى توافق عليهم الجمعية العمومية...
وكان هناك شرطان فقط للترشح وهو شرط السن (أكبر من 25 عامًا ) وأن يكون عضوًا في الجمعية العمومية والحقيقة أن وثائق تلك الجلسات ترد على المدعين ممن يسمون أساتذة في الجامعة والذين لم يقرءوا التاريخ أو يدرسوا نظم الجامعات العالمية، ويكذبون على الشعب بما يمهد للسلطة السيطرة على الجامعة بتعيين وإنهاء خدمة القيادات الجامعية مما يهدد بتسييس الجامعة في اتجاه واحد لصالح السلطة وتعرضها لما قد تتعرض له السلطة من تقلبات سياسية وأيديولوجية تبعًا لمن يتولاها، وهو ما يجب أن تكون الجامعة بمنأى عنه تمامًا وأن تحتفظ بالحرية الأكاديمية لأعضائها حماية للفكر والعلم من التلاعب من اتباع أو معارضى السلطة خدمًا لأهدافهم.
وبدأت مرحلة جديدة من العلاقة بين الجامعة والسلطة، بعد أن كانت علاقة عداء وخوف السلطة -سلطة الاحتلال- ممثلة في لورد كرومر.. نكمل فيما بعد!!