لماذا فشل النموذج الأمريكى فى العراق؟
فى 19 مارس 20013 أعلن جورج دبليو بوش بدء الحرب الأمريكية على العراق باسم "الصدمة والرعب"، وها هى عشر سنوات تنقضى على هذا الحدث الخطير الذى ستمتد تداعياته لعشرات السنين، وربما لمئات السنين فى المستقبل.
فى الأحداث الكبرى، مثل الغزو الأمريكى للعراق، هناك أسباب وربما تبريرات تطرح على الرأى العام، وهناك أسباب حقيقية يظل البحث عنها طويلا، وربما لا يتوصل إليها أحد على الإطلاق، وفى بعض الأحيان تتقاطع بعض أو كل الأسباب المعلنة مع الأسباب الحقيقية، يحار المرء فى فهم الأسباب الحقيقية وراء غزو أمريكا للعراق؛ أما الأسباب المعلنة فهى معروفة وتتلخص فى ثلاثة أسباب رئيسية: وهى أسلحة الدمار الشامل الموجودة لدى نظام صدام والتى ثبت عدم صحتها، والعلاقة بين صدام والقاعدة والتى ثبت عدم صحتها أيضا، والسبب الثالث وهو نشر الديمقراطية فى العراق وفى الشرق الأوسط، فى تقديرى الشخصى أن السبب الثالث هو من أهم الأسباب الحقيقية والمعلنة لغزو العراق، لماذا؟
لأن الإدارة الأمريكية وقتها قررت بعد ما حدث فى 11 سبتمبر أن هذا الشرق الأوسط المصدر للإرهاب والعنف والكراهية لا بد أن يتغير، وكان حلمهم وقتها أن يتغير بما سماه جورج بوش "أجندة الحرية"، أى دمقرطة المنطقة التى تبدأ من العراق وتنتشر بنظرية الدومينو، وفى نفس الوقت محاصرة مراكز تصدير الإرهاب فى السعودية وإيران من أرض العراق.
وعندما فشلت هذه النظرية فى تغيير الشرق الأوسط استعانوا بالبديل الاحتياطى وهو إغراق الشرق الأوسط فى الفوضى والخراب بدون طلقة واحدة وذلك بترك المنطقة تحكم من قبل أوغادها المخربين، ومن ثم فإن المشهد الذى نراه حاليا فى الشرق الأوسط هو نتيجة غير مباشرة لما حدث فى العراق، والذى هو بدوره نتيجة لما حدث فى 11 سبتمبر.
ولكن السؤال المطروح لماذا فشلت أجندة الحرية ونظرية فرض الديمقراطية من العراق؟
أول هذه الأسباب وأهمها فى تقديرى هو تحالف كل الديكتاتوريات فى المنطقة لإفشال المشروع الأمريكى للديمقراطية، حتى ألد الأعداء كالسعودية وإيران اتفقوا على إفشال المشروع الأمريكى، وكان الحل الذى يفهمه هؤلاء لعرقلة عدوى الديمقراطية هو تصدير الإرهاب الإسلامى إلى العراق وإغراقه فى العنف والفوضى والقتل والتخريب، عشرات الآلاف من الإرهابيين تم إطلاقهم من السعودية وإيران وسوريا وقطر وتركيا لتخريب التجربة العراقية، ويا لَمكر التاريخ، نفس الإرهابيين الإسلاميين المرتزقة المجرمين أو المخدوعين المخدرين تم تحويل اتجاههم إلى سوريا لتخريب هذا البلد وإخراجه من معادلة الشرق الأوسط، وهذه المرة لصالح المشروع السنى العربى، ويا للهول انطلقوا من نفس البلاد تقريبا: السعودية وقطر وتركيا، ولكن هذه المرة باتجاه سوريا، ويا لحكمة التاريخ سوريا التى كانت تسربهم إلى العراق عبر أراضيها تعانى من إجرامهم الآن.
إن ظاهرة الإرهاب الإسلامى وظاهرة تنظيم القاعدة ومشتقاتها هى من صناعة دول ومخابراتها وهذه الدول بالتحديد هى: مصر وإيران والسعودية وباكستان وأمريكا وأضيف إليهم قطر، وأمريكا التى صنعتهم فى أفغانستان اكتوت بنارهم فى نيويورك وفى العراق، وسوريا التى استخدمتهم يستخدموا ضدها الآن، وكل الدول التى ساهمت فى هذه الظاهرة الإجرامية ستعانى منهم يوما ما، لقد تم خلق ما يعرف بـ"الإرهابى الجوال" الذى يتنقل من أفغانستان إلى الشيشان إلى البوسنة ثم إلى الجزائر إلى الصومال ثم إلى العراق ثم إلى سوريا ومالى واليمن وليبيا وأخيرا لمصر، ومن يزرع الشوك لا بد وأن يجنى الجراح يوما ما.
ثانى أسباب فشل المشروع الأمريكى فى العراق هى القراءة الأمريكية السطحية للثقافة العربية الإسلامية، حيث تصورت أمريكا أنها قادرة على إعادة خلق النماذج الديمقراطية التاريخية كما حدث فى ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، ولم تفهم الفروق الشاسعة بين هذه الثقافات والثقافة العربية الإسلامية، حيث إن الأخيرة تعادى بدرجة كبيرة الغرب وتعادى بدرجة أكبر النموذج الغربى للحريات والديمقراطية كما أنها تعادى العولمة والحداثة وانفتاح رعاياها على النادى الإنسانى.
من الأسباب الهامة لفشل التجربة الأمريكية فى العراق أيضا السلوك الأمريكى ذاته، فبعد عشرات السنين من دعم الديكتاتوريات فى المنطقة جاءت أمريكا لتضغط على ذر لنشر الديمقراطية متجاهلة أن هذا الدعم الطويل للاستبداد والمستبدين أدى إلى نمو معارضة دينية فاشية ودموية وتعادى الديمقراطية، كما أدى إلى جهل هذه المجتمعات بثقافة وممارسات الديمقراطية الحقيقية، فالكائن البشرى ليس آلة يتم الضغط عليها لتحويلها إلى الاتجاه الذى تريد، ولكنه كائن يحتاج إلى التعلم والتدريب والتدريج والممارسة، والتجربة الأمريكية نفسها فى الديمقراطية أخذت عقودا لكى تنمو وتنضج وتصل إلى ما هى عليه الآن.
من أسباب فشل ديمقراطية العراق كذلك الأخطاء الجسيمة التى وقعت فيها الإدارة تحت قيادة السفير بول برايمر فى العراق، وخاصة قرار اجتثاث البعث وحل الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية بتحريض ومشورة سيئة من القيادات الشيعية التى كانت ملتفة حول بوش وبرايمر، وكان البديل هو الفوضى ثم الميليشيات الطائفية ثم جيش طائفى وأجهزة أمنية طائفية تتسم بالانحياز المفرط للشيعة ولا تعكس التوازن فى تمثيل الأطياف العراقية بشكل عادل.
وأخيرا كان من أسباب فشل الديمقراطية فى العراق الكراهية المحبوسة والمكتومة بين مكونات التركيبة العراقية، فقد تسبب القمع الشديد تحت حكم صدام واضطهاد الشيعة والأكراد، إلى نمو الظلم وتحوله إلى كراهية عميقة تحت السطح، وبمجرد رفع الغطاء عن المرجل بعد الغزو الأمريكى خرجت أبخرة الكراهية السوداء لتعمى عيون العراقيين عن التعايش والمشاركة عبر الديمقراطية الحقيقية وحل محل ذلك الكراهية والعداء والاقتتال من أجل المغالبة بديلا عن المشاركة.
لقد ساهم الجميع فى إفشال التجربة الأمريكية فى العراق بما فيهم الأمريكيين أنفسهم، وكان البديل للفشل مئات الآلاف من القتلى العراقيين، وخمسة ملايين طفل عراقى يتيم و2 مليون لم يستكملوا تعليمهم و4488 قتيلا بين الجنود الأمريكيين وذلك بخلاف المصابين، وتكلفة مباشرة للحرب دفعها الاقتصاد الأمريكى تتعدى الترليون دولار وضعف هذا المبلغ تكلفة غير مباشرة، وخرج العراق دولة طائفية بعيدة كل البعد عن الديمقراطية الحقيقية، وخرج الاقتصاد الأمريكى من العراق بأزمة كبيرة من الصعب التعافى منها قريبا، وتغير الشرق الأوسط من خلال تعميم الفوضى عبر حكم الإسلاميين وصار أبعد ما يكون عن طريق الديمقراطية الحقيقية، بل بات الحنين يتزايد إلى الاستبداد المستقر عند الكثيرين فى المنطقة.
إن ما يحدث اليوم من تغيرات عميقة وخطيرة فى الشرق الأوسط ستظهر آثاره بوضوح خلال عقد من الآن، وهو من نتاج فشل التجربة الأمريكية فى العراق، ولعل الذين ساهموا فى فشلها لم يكونوا يعلمون أن البديل الجاهز عند الأمريكيين هو حكم الفاشية الإسلامية، وسيندم الجميع فى المستقبل على إفشال التجربة الأمريكية فى العراق وعلى رفض أجندة الحرية؛ لأنهم سيعانون من أجندة الفوضى لعقود طويلة سيكون لون الدم فيها هو الأكثر وضوحا فى هذه المنطقة.