الجَو يحِب الزيادة!
أقلعت الطائرة على خير في موعدها المُحدَّد بالثانية، والتقط سيدنا الطيَّار المايك الداخلى ليُفاجئ الرُكاب بدلًا من الترحيب بهم كالمُعتاد وإعلامهم برقم الرحلة وزمنها وارتفاع الطائرة فوق مستوى سطح البحر، فإذا به يقول "فيه زيادة على كُل تذكرة قدرها 15% يا سادة، واللى مش عاجبه ينزِل، البراشوتات موجودة وبأسعار مش هتلاقوها في أي مكان!"
في كُل الأحوال كان هذا الطيَّار أفضل من غيره، فآخرون قاموا بتعطيل الرحلات أو التسبُب في إلغائها، ومن ضمنهم واحد قام بتأخير رحلة لمُدة ثلاث ساعات، بسبب انسكاب فنجال قهوة على بنطلونه، وعلى الرغم من أنهم زمان قالوا دَلق القهوة خير، إلا أن رأى حضرته كان مع الجانب المُضاد، وهو يؤكد أنهم دلقوا القهوة من عماهم فقالوا الخير جاهُم، لكن أن يطير مُتأخرًا خيرًا من ألا يطير خالص، يعنى المسافر اللى كان عاوز يوصَل بلده الساعة 5 أهو وصلها الساعة 8، والمريض اللى كان المفروض هيموت الساعة 10 إذا لم يصل لبلده الساعة تسعة ونُص علشان يلحَق ياخُد الدوا هناك، هيموت الساعة 11 بعد مقاومة قصيرة سريعة مُتبعًا المبدأ الشهير لا الفيلم طبعًا حلاوة روح، يعنى عُمره زاد ساعة أهو حسب التوقيت المحلى لفنجال القهوة اللى مشرَّف في حِجر الكابتن!
والحقيقة أن الأغلبية الساحقة من فئات المُجتمع لا زالت تتعامل مع ما جرى في البلد منذ أيام ثورة يناير عملًا بمبدأ "إن وقع بيت أبوك الحَق خُد لَك قالب"، وبالتالى فمن حق الطيارين المُضربين إن يطالبوا بالقوالب أو بفرافيت القيشانى أو حسب التخصُص بالذيول والأجنحة أو بالصدور والأوراك حتى ما دامت المسئولية الوطنية انعدمت، والأخلاق والالتزام المهنى راحوا في الوَبَا مع شرف (هنادى) ومع (هنادى) نفسها!
والطبيعى أن يخرُج عاشقو الفوضى والضلمة مؤكدين أن الإضراب حق أصيل للمُضرِب، والحقيقة أن الإضراب حق أكيد، لكن هُناك حقوقًا أخرى أو بالأحرى واجبات لا يُمكن فقأ العين عنها طوعًا لمُجرَّد إن حضرة المُضرب عايز يجيب شاليه في تايلاند قبل ما الصيف يبدأ لأنه زهق من ڤيللا جزيرة سيكلاديز على أساس إن الطيار في الجَو لا يقل عن البحَّار في البحر، وإن كان البحر بيحب الزيادة فالجَو ليس أقل منه، ومن ضمن هذه الواجبات ـ وهو أبسط الإيمان ـ واجبات أدبية لا يُمكن تجاهُلها في ظل ظروف الوطن الاقتصادية الحالية والتي يُعد انكسار السياحة واحدًا من أهم أسبابها، أو حتى في استمرار الخسائر المُتحققة في شركة مصر للطيران المكلومة بطياريها، ولا يُمكن أن يكون ترميم السياحة قائمًا على تهذيب وإصلاح كُل سائح سوَّلت له نفسه الأمَّارة بالسوء زيارة مصر في هذه الأيام الغامقة، فنقوم بتأخير رحلاته أو إلغاءها خالص بسبب كسرة وِدن بايخة في فنجال قهوة قليل الأصل، أو ضخَة زيادة مُفاجئة في شطَّافة حمَّام مش متربيَّة!
وفيه ناس بتاكُل عيش من موضوع الإضرابات هذا بغض النظر عن كون المُضرِب طيار، دكتور، سبَّاك، صحفى، مُحامى، (حمدين صباحى)، مبيّض محارة، فتلاقى الواحد منهم على طول راشق في قلب الإضراب مُهنئًا ومُشجعًا ومُساندًا ومُعضدًا شلولح، مسبوقًا بحنجرة ذرية وكلمات حنجورية فصيحة رنَّانة كما البرميل الأجوف، صوته يجيب لآخر شارع الاعتصام، لكن لما تفتحه ـ البرميل مش الصوت ـ وتيجى تبُص فيه تلاقيه من جوَّة فاضى، وإذا طال وقت الاعتصام قليلًا فقد يبنى العنكبوت عددًا من المساكن داخل البرميل المذكور في تصرُف غير مسئول من العنكبوت الذي لا يُمكن أصلًا أن يُعانى من أزمة سكن في مصر بالذات، خاصةً وأن كُل مكاتب وأروقة ومصانع ومدارس ومصالح القطاع العام فاتحة دراعاتها ع البحرى لحضرته مُنذ تحوَّل الإضراب في بلدنا من موضة إلى مهنة وسبوبة وعشقًا سرمديًا لم تنُله (ليلى) من (قيس) ولا (عبلة) من (عنترة)!
وأرجوك لا تُحدثنى أبدًا عن كفاءة الطيارين المصريين، فهو أمر ليس محل شك بشكل عام ولا تشكيك من جانبى بشكل خاص، ولا تُعايرنى أو تعاير البلد أيضًا بكون هؤلاء الطيارون مطلوبون دائمًا في شركات طيران أجنبية ستدفع لهم أضعاف ما يتقاضونه حاليًا، فسأعود بك مُجددًا للالتزام الأدبى والواجب الأخلاقى الذي يُحتِّم ـ على مَن يفهم في هذه الأمورـ مُساندة الشركة الوطنية والوطن مع بعض، أما مَن لا يفهم أو مَن لا يعبأ بهذا الكلام الشاعرى الفارغ، فهو لن يكون موجودًا بيننا الآن، إذ لابُد وأنه يقود في تلك اللحظة طائرة الخطوط البنغالية أو البنمية معنديش مُشكلة، طيب قاعدين ليه لو عندكم عروض من برَّة بأضعاف القيمة؟ قعدتَك دى بالبلدى واقفة علينا بالخسارة، فإنت لا بتشتغل وترحم، ولا بتمشى وتسيب رحمة ربنا تنزِل!