رئيس التحرير
عصام كامل

بهلول يحكم المدينة


عندما ولد "سعيد" فرح به أبواه كثيرًا.. كان طفلا جميلا ورائعًا.. ومع الوقت بدأت مظاهر النجابة تبدو عليه.. في المرحلة الابتدائية برز بين أقرانه، وكان ترتيبه الأول دائمًا.. وفى المرحلة الثانوية، هاجمه فيروس أصاب المخ، فتغير مجرى حياته.. طاف به أبواه على كثير من المستشفيات، لكن دون فائدة.. لم يتركا سبيلا إلا وسلكاه.. ذهبا إلى أكثر الدجالين والمشعوذين شهرة في الحى والأحياء المجاورة، لعلهما يجدان عندهم حلا..


صنعوا الكثير من الأحجبة، لكن دون طائل.. لم يعد يعي ما يجرى حوله.. تنساب الريـالة من فمه طول الوقت.. أحيانًا يغيب في نوبة هستيرية من الضحك.. على ماذا؟ لا شيء.. أحيانا أخرى، يلاحظ من حوله نظرات فاحصة متأملة في شيء لا يرونه، أو يسمعون منه عبارات تحذر وتنذر، وكأنها الحكمة تنساب من فيه، حتى ليظنوا أنهم أمام حكيم فيلسوف..

لكنه في أغلب الأحيان غائب عن الوجدان.. نظراته هائمة، لا تكاد تستقر على حال..إذا سار في الطريق، سار الأطفال الصغار خلفه.. أطلقوا عليه لقب "بهلول".. يجذبونه من ملابسه، ويحاولون أن يتجاذبوا معه أطراف الحديث، فلا يتجاوب معهم.. أحيانًا يلتفت إليهم، ثم يطلق ضحكات متصلة لا معنى لها، وهو ما كان يجعل الأطفال يستمرون في مناوشته ومشاغبته..

مع الوقت، طال شعر رأسه، ونبتت له لحية.. انفصل تمامًا عن بيت أبويه.. لم يكن يستحم، يرتدى ملابس رثة، ويمشى حافى القدمين.. يجلس على قارعة الطريق لعل أحدًا يتفضل عليه بكسرة من الخبز، وقد تحمله قدماه إلى إحدى عربات بائعى الفول والطعمية عند ملتقى الطرق، فيحظى بشيء من هذا أو ذاك..

قال بعض الأهالي عنه إنه واصل، وإنه هائم في حب الله، وهو من ثم لا يدرى من أمر نفسه شيئًا..هو غير منشغل بما ينشغل به عامة الناس.. اعتبره البعض قديسا.. ولما كان ينام ليله في الشارع، فقد أقاموا له "عشة" يأوى إليها، ويحتمى بها من برودة الليل.. يضعون له في "عشته" بعض الطعام، لذا لم يكن المكان يخلو من الفئران، والزواحف، والحشرات.

نسج الناس عنه حكايات أغرب من الخيال.. فمن قائل إنه رآه في يوم كذا يطوف حول الكعبة، وإنه ناداه بأعلى صوته لكنه كان فيما يبدو مستغرقًا في الذكر.. ومن قائل إنه عندما كان يشيع جثمان أحد أقربائه، رآه مستلقيًا على تل من القمامة وقد تغطى ببطانية ثمينة وحوله القطط والكلاب يعبثون ببقايا علب الصفيح.. وذكر أنه في عودته اقترب منه ليتأكد أنه هو، ولما ألقى عليه السلام، رد عليه، ونظر إليه نظرة فاحصة، ثم غمغم قائلا: أسرع..أسرع.. أنا أشعر أن المطر سيغمر المكان (!) ومن قائل إنه رآه في مسجد سيدنا الحسين يرتدى "جبة" و"قفطانا"، وعمامة ضخمة، وقد جلس بين القوم في وضع مهيب، ليعظهم ويعلمهم أمور دينهم (هكذا)...

في"عشته" المتواضعة، كان يزوره كبار القوم لالتماس البركة، وطلب النصح والتوجيه والإرشاد.. فهذا يستأذن في الذهاب إلى الحج، وذاك يريد أن يبنى بفلانة، وهذا يخطط لإنشاء عمارة، وذاك لمشروع تجارى، وهكذا..

أما عدد النساء المطلقات اللاتى كن يترددن عليه، وكذلك العشاق والمحبون الذين لا يجدون سبيلا لمحبوبيهم، فحدث ولا حرج.. وكثيرًا كان أهل المدينة يرون المحافظ يأتيه.. وقيل وقتها إن زوجة الرجل لا تنجب، وهو-أي المحافظ- يريد من "بهلول" أن يدعو الله له، ليرزقه بالخلف الصالح.. مشروعات كبيرة لم تكن تبرم إلا في حضرته، وتعيينات في هذه المناصب أو تلك لم تكن تعقد إلا في وجوده..

لقد صار "بهلول" هو حياتهم؛ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. أصبح هو الرجل الذي تبدأ وتنتهى عنده الأمور.. ولم يدم ذلك طويلا، فقد استيقظ أهل الحى فجأة على نواح وبكاء وعويل.. لقد مات "بهلول".. وانتشر الخبر كما النار في الهشيم.. وجاء الناس من كل حدب وصوب..

تزاحم الجميع، كل يريد أن يلقى عليه نظرة الوداع الأخيرة.. في تلك الليلة، أقام أهل الحى مأتمًا كبيرًا، يليق بمقام "بهلول".. ودُعي مشاهير القراء لتلاوة القرآن على روحه..الناس يعزون بعضهم بعضًا، كأنهم فقدوا أغلى ما لديهم.. أقيم في مكان العشة التي كان يبيت فيها "بهلول"، ضريح كبير، أطلقوا عليه ضريح سيدى العارف بالله "بهلول"..

ووضعت عليه أعلام خضراء، وماء سبيل يشرب منه الغادون والرائحون.. أصبح الناس يأتون إليه من كل مكان؛ من هذا الحى والأحياء المجاورة.. ومع الوقت، ذاع صيت "بهلول" في طول البلاد وعرضها.. وتحدث الركبان عن كراماته، وكيف أنه تمت على يديه "معجزات" كثيرة، ووصل الأمر إلى الحد الذي جعلهم يقسمون بحياته.. وفى اليوم الذي توفى فيه، أقيم باسمه مولد؛ هو مولد سيدى "بهلول"، كى يتم الاحتفال فيه كل عام.
الجريدة الرسمية