رئيس التحرير
عصام كامل

سياحة في رحلة المعراج


يا سادتي.. أنا ذاهب إلى رحلة فريدة، رحلة روحية تذهب إليها أرواحنا دون أن نبرح أماكننا، فهل تريد أن تكون معي في رحلتي؟ إذا أردت فاستكمل قراءة المقال، حيث أصحبكم إلى معية الرسول صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج، وقد يبدو الأمر غريبًا على البعض أن تكون بداية الرحلة منطلقة من مشاعر الحزن الشفيفة، فمن منا لم يخالط قلبه الحزن ويضمخ فؤاده الألم؟


كلنا نحزن ولكننا حين نحزن نجهل أننا عندما نحزن نرتقي من حيث نظن أننا ننتهي، وأعلى الحزن منزلة ـ وللحزن منازل ـ هو حزن فراق الأحباب، وما يدريك ما فراق الأحباب؟

ذاك الفراق الذي لا يعرفه إلا من كابده، وحين عرف قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ألم الفراق لمَّا ماتت زوجته وحبيبته أمنا "خديجة" رضي الله عنها، وعمه حبيبه وناصره "أبو طالب" اغترف قلبه من الحزن، وكان حزنه نورا في قلبه وتصفية لنفسه وارتفاعا بمقامه، كان هذا الحزن تهيئة له حيث تنتظره رحلة نورانية فريدة لا مثيل لها في السابق، ولن يكون لها مثيل في اللاحق، رحلة سيخترق فيها بإذن ربه سننا كونية هي رحلة الإسراء والمعراج، ولعلي قرأت من البعض أن رحلة الإسراء والمعراج كانت مكافأة للرسول تبهج قلبه عوضا عن فراق أحبابه، وأظن الأمر كان على غير ذلك، فهي لم تكن مكافأة، ولكن الحزن كان هو "التهيئة" الربانية حتى تخلو نفس الرسول إلا من الله وحده، فالله وحده الذي إن فارقنا أحبابنا كان هو الحبيب الذي لا يفارقنا، فسبحانه لا يقطعنا، ويده لا تُرفع عنا.

تهيئة نفس الرسول إذن لاختراق بعض سنن الكون، وكل نبي من الأنبياء اخترق سننا كونية بإذن الله ومشيئته وعلمه الذي بث قدرا منه فيهم، إبراهيم عليه السلام اخترق خاصية النار المُحرقة فكانت بردا وسلاما عليه، وإسماعيل اخترق خاصية الذبح، وعيسى اخترق خاصية الموت والحياة فأحيا الله به الموتى، وأجرى الله على يديه الشفاء للمرضى، ثم رفعه الله إليه ليبقى متخطيا زمنا لا نعرفه في مكان نجهله، وانظر للسنن الكونية التي اخترقها موسى عليه السلام، أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فحادث الإسراء والمعراج شاهد على اختراقه حجب الزمان والمكان، جيء له بالبراق، ونحن لا نعرف عن هذا البراق إلا أن اسمه مستمد من البرق، ويقولون إن اسمه جاء من البريق ومن شدة ضوئه، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم ركب دابة من الضوء، حملته بقواعدها وليس بقواعدنا، بناموسها وليس بناموسنا، وذهبت به إلى القدس حيث صلى بالأنبياء، ثم عـُرج به إلى السموات، ولا نعرف كيف عرج به لكننا نعرف العروج، فيقال عرَّج الرجل الثوب أي خططه خطوطا ملتوية، والعروج هو السير أو الصعود في خطوط ملتوية متعرجة "تَعْرُج الْمَلَائِكَة وَالرُّوح إِلَيْهِ فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خَمْسِينَ أَلْف سَنَة"، عروج الملائكة والروح هنا هو الصعود بالتواء، والزمن الذي استغرقته الملائكة كما ورد في الآية كان خمسين ألف سنة وفقا لناموس العروج وزمنه، وهذا يدل على نسبية الأزمنة.

وقد شهد الرسول صلى الله عليه وسلم كل مشاهد الإسراء والمعراج، واستغرق زمنا لا نعلم مقداره، وعاد إلى بيته قبل أن يبرد فراشه، وكانت الليلة شاتية باردة، فأنكرت قريش وقالت وفقا لعلمها: نَحْنُ نضرب إليها أكباد الإبل الشهر والشهرين، ويذهب مُحَمَّد إليها في ليلة! فماذا لو علموا أنه عاد بمقدار أن يتجرع أحدهم شربة ماء! كانت سُنة الزمن الذي دلف إليه غير سُنة زمننا، وقانون المكان غير قانون مكاننا، لذلك ذهب وعرج ونزل وعاد دون أن يمر عليه الزمن الخاص بنا، ولكن مر به الزمن الخاص بالطبق الذي دخل إليه "لتركبن طبقا عن طبق" فالله خلق السموات والأرض طباقا وليس طبقات أو متطابقات، ألم يقل سبحانه (الذي خلق سبع سموات طباقا) أي متداخلات بشكل كامل بحيث يستحيل أن تلحظ فارقا بين طبق وطبق مصداقا لقوله (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور).

ولكن هل رأى الرسولُ صلى الله عليه وسلم "اللهَ" في المعراج؟ اسمع مني يا سيدي العزيز، ومرر ما سأقوله على قلبك وعقلك، سُنة الله في الحياة الدنيا أننا لا نراه بالنظر، إذ أنه خلقنا على هيئة وحالة لا تستطيع أن تستقبله بالنظر، فسبحانه سبحانه لا تدركه الأبصار، ولكن الأمر في جنة الخلد يختلف عن الدنيا، فالله في الجنة يهيئنا على حالة أخرى غير حالتنا التي كنا عليها في الحياة الدنيا، فالله سبحانه يقول (وجوه يومئذ ناضرة* إلى ربها ناظرة) أي أن رؤية الله بالنظر والبصر ستكون لطائفة من أهل الجنة، ولكن في الحياة الدنيا ضرب الله لنا مثلا، وكان هذا المثل هو سيدنا موسى عليه السلام، إذ عندما أراد النبي موسى أن يرى الله بالنظر في الدنيا فقال "رب أرني أنظر إليك" أي أنه طلب الرؤية بالنظر "أنظر إليك" ولكن الله أخبره أنه لن يراه بهذه الطريقة، فقال سبحانه "قال لن تراني"، لماذا لن يراه بالنظر؟ لأن بشرية موسى لم تُهيأ لذلك، ومكانية المكان لا تسمح بهذا، ثم أثبت الله له هذا فقال سبحانه (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) أدر يا موسى نظرك وحدق في هذا الجبل ـ وهو من جبال سيناء المباركة ـ وسيتجلى الله له، وهذا معناه أن الله تجلى، وقادر على أن يتجلى للمخلوق؛ لأن الجبل من خلق الله "فلما تجلى ربه للجبل" هذه هي لحظة التجلي "جعله دكا وخر موسى صعقا" لم يتحمل الجبل بقوته وثباته وشموخه وحديديته وصخريته هذا التجلي فتفتت، ومن هنا نعلم أن الله سبحانه تجلى للمخلوق، والمخلوق بمكانه وزمنه لم يهيأ للاستقبال فانهار.

ولكن هل هذا يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير الله في المعراج؟! الإجابة هنا تعتمد على الطلب، والمكان، والزمان، والتهيئة، ولك أن تعلم يا صديقي أن وجه الاختلاف هنا هو أن سيدنا موسى طلب الإراءة وليس الرؤية، وسيدنا محمد دخل في الرؤية وليس الإراءة دون طلب منه، وحتى لا يبدو الأمر عويصا يجب أن نضع توضيحا لمعنى "الإراءة" فلنفترض يا صديقي أنك تضع جلبابا في خزينة ملابسك، وأنا أعرف ذلك يقينا ولكن هذا الجلباب بسبب وجوده في الخزينة فهو محجوب عن بصرك مثل محجوبيته عن بصري، أليس كذلك؟ فإذا قلت لك يا صاحب الجلباب أرني أنظر إليه فأكون أنا بذلك الذي طلبت هذه الرؤية وهذه تسمى إراءة، والآن هذا الجلباب أمامنا نستطيع أن نراه، فتكون هذه هي الرؤية.

ولذلك حين طلب موسى وهو بجوار الجبل على الأرض التي نحيا عليها ـ في الحياة الدنيا ـ النظر بالبصر (أرني أنظر إليك) طلبها من القادر، طلبها نظرا، والنظر لا يكون إلا بصرا، وهذه هي الإراءة، أي أن المريد لا يملك، فطلب من المراد الذي يملك أن يمكنه من النظر، والمطلوب النظر إليه هو القادر، فقال له القادر حواسك في الدنيا لا تقدر على رؤية القادر، ودلل له على ذلك بالتجلي لخلق من خلقه، وهو الجبل فحدث ما حدث، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يره في حياتنا الدنيا على الأرض التي نحيا عليها، في مكة، أو في القدس، ولم يره بسنن الحياة الدنيا ونواميسها، ولكنه رآه في دنيا أخرى غير دنيانا، وفي نقطة اللازمان واللامكان عند سدرة المنتهى، وبحواس هيئت لهذه الرؤية في هذا الموقف، أما صاحبه جبريل فلم يكن قد تهيأ لهذه الرؤية لذلك أحجم وخاف أن يحترق، ولكنه قال للرسول تقدم أنت فستخترق، إذ كان يعلم أن الله أعطاه القدرة على ذلك، فتقدم الرسول واخترق، فرأى الله كما قال ابن عباس بالفؤاد وليس بالبصر (ما كذب الفؤاد ما رأى* أفتمارونه على ما يرى* ولقد رآه نزلة أخرى* عند سدرة المنتهى).
الجريدة الرسمية