هل يواجه الصحفيون مصير محمد كريم؟!
استوقفتني كثيرا الأيام الأخيرة قبل إعدام السيد محمد كريم، حاكم القاهرة، إبان الحملة الفرنسية.. كان محمد كريم حاكما للإسكندرية وجماركها، والإسكندرية هي بوابة مصر البحرية، وقام بأمر البلاد والعباد على أحسن وجه، وفي أول يوليو 1798م، اقتحم الأسطول الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت الإسكندرية، وكان على محمد كريم أن يقف ليصد هذه الهجمات ويردها على أعقابها ولا يمكنها من دخول بلده، لكن كانت الغلبة للحملة الفرنسية.. ولم يكن عدد سكان المدينة يومها يزيد على ثمانية آلاف نسمة.. ولم يكن بها من الجنود ما يكفي لصد الجيش الفرنسي الكبير المزود بالمعدات الحديثة.
وظل محمد كريم يقود المقاومة الشعبية ضد الفرنسيين حتى بعد أن اقتحم الفرنسيون أسوار المدينة.. وظل محمد كريم يقود المعركة، ثم اعتصم بقلعة قايتباي ومعه فريق من الجنود حتى فرغت ذخيرته فكف عن القتال وتم أسره هو ومن معه، ودخل نابليون المدينة وأعلن بها الأمان.
وأطلق نابليون سراح محمد كريم، وتظاهر بإكرامه، وأبقاه حاكمًا للإسكندرية.. ولما تم لنابليون الاستيلاء على الإسكندرية رأى أن يغادرها إلى القاهرة وعين كليبر حاكمًا عسكريًا عليها وزحف إلى القاهرة في 7 يوليو عن طريق دمنهور والرحمانية.
ظن نابليون أن محمد كريم ينحاز إلى جانبه بعد أن فك أسره، لكن خاب ظن نابليون، فلم يمهله محمد كريم إلا وأعلن المقاومة الشعبية في أنحاء الإسكندرية مما أرق الفرنسيين الذي فشلوا في استماتة معهم، فاعتقله كليبر حاكم الإسكندرية وأرسله إلى القاهرة ليحكم عليه بالإعدام.
وجهت المحكمة الفرنسية إلى محمد كريم التي شكلها نابليون للحكم على المناضلين تهمة التحريض على المقاومة وخيانة الجمهورية الفرنسية، وأثناء المحاكمة أرسل نابليون رسالة إلى المحقق يأمره فيها أن يعرض على محمد كريم أن يدفع فدية قدرها 30 ألف ريـال يدفعها إلى خزينة الجيش ليفتدي نفسه.. ورفض محمد كريم أن يدفع الفدية، ولما ألح عليه البعض في أن يفدي نفسه بهذه الغرامة رفض وقال.. "إذا كان مقدورًا علىّ أن أموت فلن يعصمني من الموت أن أدفع الفدية، وإذا كان مقدورًا علىّ أن أعيش فعلام أدفعها ؟ المهم أن الفرنسيين، ربما رغبة في إهانة الرجل العظيم، أو إقناعه بالعمل معهم، طافوا به أرجاء المحروسة، ليجمع مبلغ الفدية.. فلم يتطوع أحد من المصريين، حتى الأثرياء منهم، بالإسهام من ماله الخاص.
وفي يوم6 سبتمبر 1798م أصدر نابليون أمرًا بإعدام محمد كريم ظهرًا في ميدان القلعة رميًا بالرصاص.. ونفذ في السيد محمد كريم حكم الإعدام بميدان الرميلة بالقلعة.
يراودني كابوس تخلي الشارع عن الصحفيين في أزمتهم الأخيرة.. رغم أن الصحفيين لا يطلبون دعما ولا مساندة، لا مادية، ولا معنوية.. فقط الحياد هو ما يطلبونه، لكنَّ المواطنين في الشارع، في معظمهم، اختاروا الانحياز مبكرا للجبهة المضادة للصحفيين، بلا مبرر مقنع.
لم يزعجني مشهد "المواطنين الشرفاء" أمام وحول مبنى نقابة الصحفيين، أثناء حصار الأمن لها، يوم الثلاثاء الشهير، ولا الحشود الرهيبة التي اختصت بها الداخلية منطقة وسط القاهرة، وشارع عبدالخالق ثروت تحديدا، ولا مسارعة "الصحفيين الشرفاء"، في لهفة، لسباق نفاق للسلطة، نحو شق الصف، والسعي لإثبات الولاء، وإعلان الوقوف إلى جانب الشرطة ضد النقابة، وافتعال معركة وهمية بين مجلس النقابة، والدولة.
لكن ما أثار حزني حقيقة، هو موقف سائر أفراد الشعب، ومنهم ناس غلابة وعاديون طالما وقف الصحفيون إلى جانبهم ودعموهم في مطالبهم البسيطة وحقوقهم في الحياة، ودافعوا عن مظالمهم، وحاربوا من أجلهم الفاسدين والمرتشين.. لماذا انتقد هؤلاء موقف النقابة، والتزموا خندق الداخلية والدولة، ووقفوا معادين للصحفيين، ودلت نبراتهم وكلماتهم على حقد وكراهية دفينة، وضيق عارم بكل من ينتمي للمهنة؟!
لماذا نسوا، أو تناسوا، فجأة كل أيادي الصحافة والصحفيين، وما قدموه من أجل المواطن البسيط؟! هل كان هناك ملجأ، وملاذ في البلد كله، لكل مظلوم، أو مضطهد، أو ضعيف، إلا الصحافة والإعلام، يستغيث بهما من الفساد والعنف والقوى الغاشمة في مصر؟! لماذا كل هذا الجحود والنكران الطارئ؟! هل المصريون مصابون بحالة من "الشيزوفرانيا"، بحيث ينحازون لجلاديهم ضد المدافعين عنهم؟! هل الخوف أكبر من قدرتهم على مساندة داعميهم؟!
البعض برر ذلك بالصورة الذهنية الخاطئة التي رسمها مقدمو برامج التوك شو من الصحفيين، تحديدا، عن ممارسي المهنة.. فيبدو الصحفي في تلك الصورة المشوشة والشائهة فاسدا، ومبتزا، ومنافقا، وشديد الثراء من كل الطرق، المشروعة وخلافها.. يتقاضى مكافآت ورواتب بأرقام فلكية.. يقضي أوقاته بين صحيفته، حيث يجلس على الكرسي الوثير، في الهواء المكيف، وتستقبله السكرتيرة الحسناء، التي غالبا ما يقدم على الزواج بها عرفيا.. وبضع ساعات في القناة الخاصة.. والبعض ممن لا يقدم برامج، ولا يشارك في إعدادها، يجري مداخلات في البرامج، ويحل ضيفا على برامج أخرى.. المهم في النهاية يضاف إلى رصيده عدة ملايين كل شهر.
هذا باختصار ما عبر عنه معظم من قابلناهم، ونقابلهم يوميًا في الشارع.. اكتشفت أنهم يتوهمون أن الصحفي يتقاضى واتب وليس راتبًا واحدًا.. وبالدولار.. وبأرقام فلكية!
قد يكون للجان الإلكترونية التي سخرها الأمن للتشهير بالصحفيين وتشويه صورتهم دور كبير في انحياز الشارع.. لدرجة أن زملاءً لنا في بعض المحافظات تعرضوا لإساءات وإهانات من مواطنين عاديين، يعانون من بطش المسئولين التنفيذيين، وقد يخرجون سعيًا نحو لقمة العيش صباحًا، خماصًا، ويروحون كما خرجوا!
لماذا لم يغضب الشارع ضد الأطباء والمحامين في وقفاتهم الكثيرة؟!
الأمر خطير، وعلينا البحث عن سبل للإصلاح، والإنقاذ قبل أن يغادر السهم منزعه، ويتسع الفتق على الراتق، ونواجه رفضًا جماعيًا من الشارع.