فيس بوك بين التواصل والتنافر
لا شك أن مفاهيم العصر الحديث قد تغيرت بصورة قد لا يتصورها الكثير من جيل آبائنا كجيل سابق لكنه قريب لجيلنا الحالي، فقد زرع الآباء بداخلنا قيما عميقة خالدة ومصاحبة لأجيال متعاقبة، تعطي معنى للآدمية، وترسخ قيمة للإنسانية، وأهم تلك القيم هي قيمة الصديق، وتقبل الآخر بل احترام مقدساته بالرغم من اختلافه معنا في الدين والهوية والميول الفكري والسياسي.
ربما نكون نحن آخر جيل يعي قيمة الصديق وأهمية الاختلاف، بل ربما يكون موجودا في جيلنا من لا يعي قيمة ما نقدسه أو نحترمه، أو بالأدق لا يعي ثقافة الاختلاف التي تعني له المواطنة الحقة، وليست مجرد كلمات تنقش على الماء لعدم جدواها أو فاعلية أثرها على المجتمع.
كمجتمع شرقي ما أكثر ما نردده وما أقل ما نطبقه، في حقيقة الأمر نقول مالا نفعل عادة، ربما لكسب الآخرين أو الكذب عليهم، أو قد يكون لامتلاك عقولهم بما لا نؤمن به نحن من الأساس، وهنا نجد الهوة العميقة التي يقع فيها كل مستخدمي الإعلام الجديد من شبكات تواصل كفيس بوك وتويتر إذا جاز التعميم.
صفحات فيس بوك العامة أو الشخصية تعرض وجهة نظر صاحبها أو المسئول عن إدارتها، وقد تعكس بوضوح ميوله السياسية أو فكره أو نهجه الديني من معتدل إلى متشدد أو قد يصل إلى متطرف، فهو المسئول عما يكتب، وهو المحاسب على ما يقول أمام متابعيه أو أمام ضميره والأهم أمام الله.
وعادة في الصفحات العامة يكون حجم التفاعل كبيرا لكنه عنيف، لإمكانية دخول غرباء كثيرين لنفس الصفحة والتعبير عن آرائهم وفكرهم الديني والسياسي بأريحية عالية دون قيد أو شرط أو رقابة أو ملاحقة أو عقاب، فنجد خبرا سياسيا أو محليا أو قد يكون خبرا فنيا يعلق عليه آلاف الفيسبوكيين من جميع أنحاء العالم، كلا بمعتقداته وفكره ودينه وميوله السياسية ومعشوقه أو كارهه الفني أو الديني أو الرئاسي !
نجد تعليقات مكررة من أمثلة السباب الخارج عن اللائق، وهناك التعليق الخارج عن الشعور بسبب كره عميق أو عشق غير مبرر لشخص بعينه، وهناك التعليق الكوميدي الذي يتميز به الشعب المصري الذي يتسم بالسخرية العميقة، فهو يسخر من معاناته، من فقره، من أوضاع يرفضها في بلده.
كل ذلك مجاز"برغم أنه ليس طبيعي أو منطقي" للحدوث على الصفحات العامة، ويكون المسئول عنها مدركا أنه يتعامل مع مئات والآلاف الفيسبوكيين المختلفين، ووارد حدوث كل ما سبق ذكره كتفريغ لكبت مجتمعي مختلف الاتجاهات والأفكار، والأهم يعتبره الكثيرون وسيلة لفرض الذات كلا بأسلوبه ومنطقه !
لكن على الصفحات الشخصية "الأكونتات" نجد الوضع مختلفا قليلا، لأن صاحب الصفحة يختار المقربين له من الأهل والأصدقاء والجيران والمعارف وزملاء العمل والدراسة، فنجده يختار أناسا يفترض به معرفتهم، أو يشابهونه في ميولهم السياسية والمستوى الفكري والعمري، كوسيلة منه للتواصل معهم وتبادل الآراء والانطباعات فيما بينهم، وهذا التشابه أو التماثل قد لا يكون موجودا من أساسه، وقد يختفي في أحيان كثيرة فقط حين يصل النقاش حول رئيس بعينه، أو موضوع يخص الدولة والحكومة وإن كانوا جميعهم مصريون، معايشون لنفس الأوضاع الاقتصادية والأمنية والمجتمعية، تتشابه يومياتهم في مواجهة نفس الضغوط والتحديات، ويملؤهم نفس الأمل والرغبة في إصلاح وضع البلد!
بعد الثورة استطاع الإعلام أن يشق الصف بحرفية عالية، بتسريب مكالمات لرموز، بتحريف تصريحات لشخصيات عامة، بتزوير ماض وتاريخ شخصيات كادت تكون نخبة وصفوة المجتمع والثورة !
بعد مرور أكثر من خمس سنوات على ثورة يناير، وتعاقب تداول السلطة ما بين مجلس عسكري، ورئيس انتقالي، ورئيس منتخب لحزب ديني، ورئيس ذي خلفية عسكرية منتخب أيضا، نجد عمق الاختلاف والانقسام الذي ساد في الشارع المصري، وفجوة الشق بين أبناء الوطن الواحد الذي قد يصل لنزاع أسري أو تفكك أسرة بسبب اختلاف الأم والأب على من تؤيده هي أو على من يمثله هو، فلكل فترة حكم "إن قصرت" نجد مؤيدي رئيس، ونجد معارضي نفس الرئيس، وقد يصل الأمر إلى أن نجد رافضي نفس الرئيس المحبوب من الآخرين.
وهنا نجد أن فيس بوك عينة صغيرة لما يحدث في واقع يوميات المصريين من تفكك وانهيار العلاقات، بسبب اختلاف خلفياتهم السياسية أو لتأييدهم لرئيس دون الآخر، ولا إجماع على شخصية وطنية عامة، بعد أن حرف تاريخها وشوهت صورتها لصالح آخرين، أو دعم لإنجازات حكومة، أونقد المعارضين لاخفاقاتها !
نجد فيس بوك صفحة للحرب، دعوة للاختلاف، أداة للشائعات، وسيلة للسب والقذف، مكان علني لتفريغ شحنة كره لشخصية عامة، وشحنات تأييد لنفس الشخصية، وفي كلتا الحالتين لا نجد ما يبرر الوضعين من معارض شرس، ومؤيد بدون وعي، نظرا لعدم تداول المعلومات بشكل كبير وكاف، وفقدان الشفافية المعهود حجبها في دول العالم الثالث، فما بالك بمعلومات تخص دولة تعرضت لثورتين في أقل من 4 سنوات متتالية لا يقوى المواطن البسيط على استيعاب أسباب فشل الثورة الأولى ورفض البعض للثورة الثانية !
وبين الثورات وفيس بوك والشخصيات العامة وأوضاع البلد، ضاعت القيم المغروسة بداخلنا، فلم يعد هناك مساحة لقبول الآخر وإن كان من الأهل والأقارب، ولم يعد في الإمكان الحرص على عشرة السنين بين الأصدقاء المعارضين والمؤيدين لنفس نظام الحكم، لم يعد هناك مجال للتواصل مع قبول الاختلاف في الرأي والفكر.
لم يعد الإعلام الجديد "فيس بوك" وسيلة للحصول على المعلومات ولنشر الحقيقة، بل أصبح أداة لقلب الحقائق لصالح أحد الأطراف ضد الآخر، وإهانة معارضين، ونبذ شخصيات عامة بتشويه تاريخها وماضيها.
من يدفع الفاتورة والحساب في النهاية دائما المواطن فيس بوكي، الذي يأمل أن يعرف شيئا من الحقيقة من معلومات تهديه اليقين في حكمه ضد أو مع وضع عام للدولة، مواطن لم يعد يثق في الإعلام المرئي أو المقروء، وأخذ يبحث عن حقائق الأمور بين صفحات الكترونية فيها شيء من الصحة والكثير من الحروب الافتراضية.