ثقافة القطيع
أسوأ ما يمكن أن يبتلى به مجتمع من المجتمعات هيمنة "ثقافة القطيع" عليه، مما يؤدى إلى تعميق الانقسام وتعظيم الخلافات وظهور ما يعرف بـ "الاستقطاب السياسي الحاد" وما لذلك من آثار اجتماعية وسياسية واقتصادية سلبية بالغة فيـــه.
وأهم ما تتسم به "ثقافة القطيع" استبعاد العقل.. وغياب المنطق.. وهيمنة الهوى وشخصنة المواقف.. وتحول الاختلاف في الرأي إلى جدال عقيـــم.. وتمترس كل فريق وراء مواقفه.. والانحياز الأعمى لكل فرد للفصيل الذي ينتمي إليه، ذلك ليس عن قناعة بقدر ما هو نكاية في الطرف الآخر بغض النظر عن الأفكار والقيم.
وفي ظل "ثقافة القطيع" يكثر التلاسن والتنابز بالألقاب وتبادل الاتهامات بالتآمر والخيانة والعمالة، كل جانب يحاول بها النيل من الجانب الآخر، وفيها أيضًا يهوى مستوى الحوار لمستنقع سحيق تستخدم خلاله أسوأ العبارات والألفاظ.
وفيها يتوسع كل طرف في اختلاق الأعذار والمبررات دفاعًا عن مواقفه وبما يدحض الآراء والمواقف المخالفة بالحق أو بالباطل.
ويفقد المجتمع مع ثقافة القطيع بوصلة اتجاهاته، تتنازعه الأهواء.. وتمزقه المصالح فتتحول قيمه إلى أشلاء.. وتتفرق به السبل فيضل عن الطريق، كل فريق فيها يتصور أنه يحتكر وحده ودون غيره رجاحة العقل وصواب الفكر وسلامة المقصد.. كل فريق يعتقد أنه الوحيد الممسك بمفاتيح الحل والربط، وأنه المسيطر على عناصر القوة والقادر على توجيهها لتحقيق ما يرى.. وما يراه دائمًا صواب.
وتسود مع ثقافة القطيع سياسة "إما معي أو ضدي"، والويل والثبور وعظائم الأمور لمن يضل أو يغوى ويشز عن هذا القطيع فتلاحقــه الاتهامات واللعنات ويواجه الاغتيال المعنوي والحصار النفسي.
أما الموقف الأكثر صعوبة فيكمن فيمن يحاول أن يستقل وينأى بنفسه عن ثقافة القطيع تلك، من يحاول أن يكون متسقًا مع فكره وقناعاته ويشكل رأيه وموقفه الخاص بعيدًا عن هذا القطيع أو ذاك، فيكون مستهدفًا من الجميع، ويجد نفسه طرفًا في حرب شعواء لم يسع إليها ولم يتمناها..
مثل هؤلاء يكون موقفهم مبنيًا على رغبــة منهم في أن يكون المجتمع أفضل وأكثر سلامًا بعيدًا عن التجاذبات أو الاستقطابات، فإذا بهم يواجهون اتهامات من الجميــــع.. اتهامات تتعارض مع العقل والمنطق بالانتماء للفريق الآخـــر.. يتهم بالتآمر والخيانة والعمالة والضلال والكفر والتطرف والإرهاب والشذوذ والخناثة لمجرد أنه قرر أن يستقل برأيه عن "ثقافة القطيــع".