(عداوي) والأدب السعودي
الطائف أخير.. بهذا العنوان المكان بدأ الأديب الدكتور محمد عداوي روايته (أفول) وبه أنهى الفصل السابع والأخير من الجزء الأول.. وبين الفصلين رحلة طويلة يرتادها أستاذ الصحافة والإعلام ليكشف لنا وجها آخر من الأدب السعودي الذي يبدو فيه التأثر واضحا بأدب أمريكا اللاتينية بواقعيته بعد الازدهار، حيث تجد رائحة جابرييل جارثيا ماركيز في تحدي القواعد التقليدية للسرد، مع الدمج المتقن لمجموعة من الأجناس الأدبية، دون أن يغفل المؤلف نزعة تجديدية تعبر الحواجز والأماكن والحدوود لتقدم حالة إنسانية شديدة الخصوصية.
في (أفول) عداوي سوف تلمس المكان والناس والعلاقات باسترسال مدهش وإسهاب تتقاطع فيه وتتداخل بحميمية الخواطر والمشاعر مع محلية الشوارع والمدن مثل (جدة) أم الرخاء والشدة، و( بيش) التي لم تتواصل حتى الخرائط الورقية لتدوين اسمها، لكنها ورغم ذلك وحدها التي (تلتقي فيها السماء بالأرض في عشياتها اليانعة. فهي شجر الدوم الذي يسابق نحو السماء، والماء الصافي الرقراق الذي لا يتكرر ولا يزمجر إلا في مواسمه) أما (جازان) فهي جازان الجن أي سجنه الذي اتخذه سليمان عليه السلام والتي لا تمر بها فترة دون أن يظهر شر أو كارثة ورغم ذلك فإن الإنسان الجيزاني أكثر تعلما وتدينا وأنقى عقيدة.. وطريق مكة القديم يحتضر بعد ازدهار ولم يعد به مظهرا للحياة سوى مطاعم باكستانية قذرة وورش ومحال أدوات غير نشطة.
ويتجاوز عداوي واقعية المكان لينطلق عابرا للزمن لينسج تأملاته حول حديث الجد عن البيت القديم في أيام الشتاء والتحلق حول الملوخية التي تعلمتها الجدة مع الحمام من مصر تلك الجدة التي يصفها بأنها الفارسة التي لم تترجل طوال عمرها، وشريطه في الليل في الصف الأول ثانوي داخل جهاز تسجيل كسول وهو يبث (طول عمري عايش لوحدي غريب وراضي بحالي).
إنه يصف لنا وجه فاطمة المشع كالشمس ومصطفى وإبراهيم وأحمد وسلمى التي يعيش إبراهيم أسير حبها ولا يستطيع الزواج منها لفقره الشديد.. قبل أن يسترسل في تأملاته اللاهثة التي تبدو عبثية أحيانا حين تستغرقه(هل فكرت أن في حواشي الحياة ملفات ومنحنيات وتقاطعات قد تلتهمك بالكامل؟) إنه السؤال الصعب الذي تحمل فصول روايته بالكامل الإجابة عليه.
تأمله وهو يقول(الثلاثة قد رأيتهم في مكان ما، إسماعيل وصالح والنماشي) في محطة سفر، أو كانوا يسبحون بكامل ملابسهم في ترعة من النيل).. فالأشخاص يمرون هكذا في روايته ويستوقفونه لطرح الأسئلة والتأمل والشرود والغوص في خلجاتهم تاركا الأحكام والتوقعات بل والأحكام للقارئ، وبطله عمر أو الراوي يعيش طول الوقت الأحلام الصغيرة والصور والأسماء والانطباعات.. حسين وناصر وإسماعيل.. وكل هذا الخلاف بين والده ووالدته الذي لا ينتهي ولا يعرف له سببا.. ذلك الوالد الذي يبدو كحكاية طويلة من القسوة تتسرب مقاطعها عبر فصول الرواية لتكشف عن الوجع الحقيقي، ثم عائشة المهر الجامح التي يعزف حفيف ثوبها الأخضر على مسامعه نغما لاينساه فهي حب الطفولة وحلم المراهقة.
في ثنايا الرواية أيضا تأملات في الحياة والموت عبر السيول(كل الأبرياء في بيش والمدايا يموتون بشكل محزن إما أن يبتلعهم الماء أو النار أو الحديد) قبل أن تتعدد الأماكن التي يعبرها في روايته دون ترتيب وكأنه على بساط الريح، فيتحدث عن القاهرة وتجار الآثار والأعراض وأم رمضان وكريستينا وأمها الإيطالية بحي الزمالك (كريستينا الفاتنة التي صادرت القلب دون مقدمات) واللقاء الذي جمعهما في ميدان التحرير وركوب النيل تاركين خلفهما المراكبي يغني (ياوابور قولي رايح على فين) لتختلط حكايتها بحكاية أسمهان وحديث الأديان ومسجد الفتح وعمر مكرم الذي يشبه مسجد الأمير متعب في جدة.. حتى شوارع الإسكندرية والإسماعيلية والسويس تشم رائحتها في الرواية عبر البشر، بل وأيضا اليمن ودمشق وطاجسكتان.
وكما بدأ يعود للطائف التي يصف فيها رحلته قائلا (لقد كنت في رحلة خارج الزمن، نمت فيها كثيرا أو نومت، ورأيت فيها أشياء حقيقية وأخرى خيالات بعيدة وأحاديث نفس مريضة) مضيفا(حين نظرت إلى قوام على ووجه أمي المتعب وشباب فاطمة الغارب خمنت أنها عشرون سنة أو تزيد).