رئيس التحرير
عصام كامل

بالصور.. متحف الآثار في قرطبة «تاريخ حضارة كانت زاهرة»

فيتو

يعرض الدكتور محمود رمضان - خبير الآثار والعمارة الإسلامية، مدير مركز الخليج للبحوث والدراسات التاريخية- موضوعًا مهمًا بصفحته «الصالون الثقافي» عن متحف الآثار في قرطبة بقلم الدكتور أحمد الصاوي - أستاذ الآثار والفنون الإسلامية- في إطار دعوة العالمين الجليلين لنشر الوعي بأهمية التراث الإنساني العالمي والحفاظ عليه.


ويقول الدكتور الصاوي:
يقع متحف الآثار في قرطبة في أحد أهم شوارع هذه المدينة الأندلسية التي كانت في أيام مجيدة مضت حاضرة للخلافة الأموية الغربية التي نشأت على أيدي سلالة الأمويين بعد قرنين تقريبا من سقوط دولة الأمويين في الشرق الإسلامي.

وقد بدأت قصة إنشاء هذا المتحف بتكوين أول مجموعاته في عام 1844م عندما شرعت الحكومة الإسبانية في جمع القطع الأثرية من الأديرة لتودعها في مبنى كلية العذراء تحت مسمى متحف الفنون الجميلة.

وفي عام 1849م نقل هذا المتحف بمقتنياته إلى مقر مجلس مقاطعة قرطبة ونقل ثانية في عام 1861م بعدما تضخمت مقتنياته إلى مقر أحد المستشفيات الخيرية، ثم عنَّ للمسئولين عنه فصل المقتنيات ذات الطابع الأثري عن غيرها من المقتنيات الفنية، لينشأ بذلك متحف الآثار بقرطبة في عام 1868م في "بلازا دي سان خوان"، ولكنه مالبث أن نقل إلى منزل "بوسكو فيلا سكيز" القائم اليوم في شارع صموئيل دي لوس سانتوس بقرطبة.

والحقيقة أن تسمية الشارع باسم صموئيل دي لوس سانتوس إنما جاء تقديرا لدور هذا الرجل في العمل من أجل حماية مقتنيات المتحف من مخاطر الحرب الأهلية الإسبانية، وذلك بنقلها لمقرها الحالي في قصر كاستيلو خودي باييز، وهو أحد قصور عصر النهضة في إسبانيا.

ولم تتوقف جهود صموئيل عند هذا الحد، بل سعى لجرد المقتنيات وتصنيفها بدقة مع زيادة أعدادها بفضل الحفائر التي نفذت في غير موقع من قرطبة القديمة.

وشهدت الفترة فيما بين عامي 1959 و1987 م وبفضل عناية فيسنت آنا ماريا تطورا ملحوظا في عمل المتحف بفضل التدفقات المالية والتي مكنته من تكوين واحدة من أكبر المكتبات المتخصصة في الآثار وإصدار دورية علمية شهيرة " آثار قرطبة".

وبدءا من عام 1992 شرع متحف الآثار بقرطبة في تنفيذ خطة تطويرية استغرقت نحو ست سنوات لتهيئة المتحف لاستيعاب مقتنيات جديدة وأداء العديد من الأدوار العلمية والتعليمية والثقافية.

ويحتوي مبنى المتحف عدة قاعات موزعة على طابقين، وتطل تلك القاعات على بعض الأفنية وتشمل مقتنيات متحف قرطبة مجموعة هامة من التحف التطبيقية التي تنتمي لعدة فترات تاريخية من عمر هذه المدينة العريقة.

فهناك إلى جانب الآثار الأندلسية الإسلامية آثار من عصور ما قبل التاريخ ومقتنيات من الفنون التطبيقية التي ازدهرت في قرطبة في عصورها الإيبرية والرومانية والقوطية وحتى عصر النهضة الأوروبية.

وترجع أهمية التحف الإسلامية المعروضة بقاعات متحف الآثار بقرطبة إلى حقيقة أنها تعطي فكرة واضحة ليس فقط عن نتاج الحفائر الأثرية في قرطبة والحاضرة الملكية " الزهراء" التي أنشأها عبد الرحمن الناصر بقربها، ولكن أيضا على تواصل التقاليد الفنية فيما بين الأندلس والمغرب، ثم استمرار هذه التقاليد بعد سقوط غرناطة في نهاية القرن 15م على أيدي من بقى بالأندلس من الصناع المسلمين، والذين عرفوا بالمدجنين لإرغامهم من قبل السلطات الكنسية على إدجان أو إخفاء عقيدتهم الإسلامية فرارا بأرواحهم من اضطهاد محاكم التفتيش.

وتعد القطع الفنية التي عثر عليها في أطلال الزهراء من أندر القطع التي تفصح بصدق عن الجمال الفني الذي كانت عليه تلك الحاضرة التي قصد الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر بإنشائها أن تكون مدينة ملكية خاصة بالبلاط ونخبة الحكم بالخلافة بعيدا عن صخب قرطبة.

ومن القطع الفنية الرائعة التي بقيت تحت أطلال الزهراء بعد خرابها - بسبب الصراعات الداخلية بين المسلمين عقب سقوط دولة الخلافة- تمثال من البرونز كان يشكل جزءا من فوارة ماء بأحد أفنية قصور الخلافة وهو مصبوب على هيئة وعل طويل العنق يقف على قوائم أربعة رشيقة وقد فغر فمه لتتدفق من خلالها مياه النافورة التي اعتدنا وجود أمثالها في قصور الأندلس الباقية في غرناطة.

ولا يتوقف جمال هذا التمثال البرونزي الصغير على مظاهر القوة الجلية في تكوينه الجسدي بل تعدى ذلك إلى الزخارف البديعة على جسد الوعل والتي تتألف من دوائر متلاصقة وبداخل كل دائرة رسوم أوراق نباتية نفذت بدقة بالغة.

وبالمتحف أكبر مجموعة معروفة من أعمال الجص الأندلسي في عصر دولة الخلافة وهي تشمل أفاريز من الجدران وأحجبة كانت تغشي الفتحات أو النوافذ، فضلا عن تيجان أعمدة تدل ضخامتها على عظم الارتفاعات التي كانت للأسقف التي كانت تقوم الأعمدة بحملها.

وقد زخرفت تلك التيجان الجصية والتي بلغ ارتفاع الواحد منها نحو 25سم بأسلوب الحفر البارز، وهي تحتوي على أوجه أربعة وأركان أربعة أيضا كلها عامرة برسوم أفرع وأوراق نباتية تخرج منها وأكثرها شيوعا رسم المراوح النخيلية وأنصافها، فضلا عن رسوم لأشخاص في بعض الأوجه ويعطي تناسق زخارفها كافة دلالة واضحة على أنها كانت تشكل جزءا من بناء واحد.

وهناك بعض أحجبة الجص على هيئة حشوات مفرغة بزخارف هندسية قوامها أشكال نجمية ومعينات وأنصاف دوائر تتكرر بتوازن دقيق دون أن يتكرر التصميم الواحد في تلك الأحجبة الدقيقة الصنع.

ومن قطع الجص الرائعة لوح كان جزءا من إفريز جداري فيما يبدو، وهو يزدان في تصميم مثالي التوازن بأفرع نباتية تنتهي بأشكال دوائر بداخل كل منها رسوم أنصاف مراوح نخيلية، بينما تتناثر رسوم أوراق نباتية ثلاثية البتلات بين الأفرع في خارج هذه الدوائر.

ويعرض المتحف عددا معتبرا من أواني الخزف الأندلسي التي عثر عليها في حفائر الزهراء وهي تمتاز بأنها من نوع واحد رسمت زخارفه تحت الطلاء الزجاجي بلون واحد هو اللون الأخضر المنجنيزي مع لمسات باللون الأسود.

ومن أمثلة أواني الخزف تلك طبق يتوسطه رسم فرس يعتليه صقر، وقد رسم الفرس في حالة حركة وبطريقة تعبر عن الحيوية والقرب من الطبيعة، ولعل المنظر يشير لأحد أنشطة البلاط الشائعة في العصور الوسطى وهو ترويض الخيول.

وهناك أيضا قدر صغير متسع الفوهة وله مقبضان يشبهان مقابض أواني الأمفورا الإغريقية، وقد ازدان هذا القدر برسوم أنصاف مراوح نخيلية تدور بالمنطقة التالية للفوهة في نطاقين متتاليين، ومن هذا النوع أيضا قمقم له بدن كروي وعمق طويل ينتهي بفوهة ضيقة، وقد ازدان بدن القمقم برسوم لأشخاص مختلفي الملامح والملابس.

وبالمتحف أعمال من البرونز لعل أهمها قنينة عطر لها سدادة محكمة، وهي ذات بدن كروي يزدان هو والعنق بزخارف بارزة قوامها مناطق من خطوط تتلوى صاعدة وهابطة فيما بين القاعدة والعنق وبعض رسوم الأوراق النباتية.

ويلحق بتلك القنينة أيضا من حيث الأهمية حامل حوض سداسي من البرونز يقف على ست قوائم، وهو مؤلف من 12 قطعة عبارة عن 6 أضلاع و6 أركان تجمع فيما بينها، ويعود هذا الحامل لفترة سيطرة الموحدين على بلاد الأندلس أو بالأحرى على ما تبقى منها بعد سقوط بعض المراكز المهمة ومنها قرطبة بأيدي الممالك النصرانية الإسبانية.

وقد زينت أوجه هذا الحوض في كل ضلع بحشوة بوسطها كتابة بالخط الكوفي ومن حولها زخارف نباتية، ويلي تلك الحشوة كتابة بالخط الكوفي نفذت بالتفريغ ثم تتوج قمة كل ضلع بأشكال شرفات مسننة تشابه تلك التي كانت بنهايات جدران المساجد، وبنهاية كل ضلع رسم هلال، ولعل في ذلك تمثل فني لواجهات المساجد الموحدية في تلك الفترة.
الجريدة الرسمية