رحلة الجنسية الفرنسية (3 )
كان طابور كارت الإقامة الفرنسى يطول كل عام، حتى بات عبئا، أتحسب له وأحمل همه.. وفى إحدى المرات كان ابنى الصغير معى والبرودة والانتظار شلا أطرافى وأنا أحمله فتركت مكانى بعد وعد من السيدة التونسية التي كانت خلفى أن تحفظه حتى عودتى، وجلست قرب شجرة فناداني رجل تعالى هنا احتمى من البرد داخل مخزن للبضائع فدخلت وجلست على كرسى أحضره لى، ياله من إحساس لا يوصف حين يأتيك الدفء بعد البرد كأن نعم الدنيا اختصرت في لحظة أنقذت فيها قبل أن أتجمد وحين يحن عليك إنسان لا تعرفه تبدو كمهاجر ضل طريق عودته لوطنه فوجد من يرشده.
كان العاملون بالمخزن يذهبون ويجيئون وجاءنى الوجه الطيب يحمل فنجان قهوة، وعاهدت نفسى أن أعود إليه حين أحصل على الجنسية حاملة تذكارا من مصر وأقول له جملة معبرة لقد كنت أهلا للحصول على جنسية بلدك، وها هي هديتى إليك من بلد القلب، وبلد القلب هو تعبير يطلقه الفرنسيون على البلاد الأصلية للمهاجرين، بلاد الميلاد والطفولة والشباب لا تخرج من القلب مهما طال الترحال بعيدا عنها، ولكن يا لحزنى فلم أف بوعدى ولم أعد إليه ونسيته وسقط من ذاكرتى فلا أذكر اسمه أو شكله وكلما مررت على المخزن لقضاء مصلحة ما في مبنى المصالح وجدته مغلقا، مازلت أذكرك يا سيدى مهما غابت عنى ملامحك وتاه وجهك بين الوجوه لأنك إنسان.
بعد خمس سنوات تقدمت بطلب الجنسية وبعدها بشهرين كانت المقابلة الإجبارية مع البوليس الفرنسى وأمام شابة جميلة كانت تفحص أوراقى بادرتنى بسؤال لماذا تريدين الجنسية الفرنسية، وكان ردى في الحقيقة أعيش هنا منذ خمسة عشر عاما، فقد عشت في موناكو عشر سنوات قبل فرنسا وطوال هذه السنوات وأنا أعمل وأحترم الدول التي وجدت لنفسى بها مكانا وأصبحت جزءا من هذا المجتمع في حياتى اليومية، وأريد أن أصبح جزءا منه بشكل رسمى كمواطنة تشارك في كل ما يخصه فهزت رأسها بإعجاب..
وطرحت سؤالها الثانى بتحبى مصر أكتر ولا فرنسا أكتر، فقلت لن أطيل في إجابتى بأن فرنسا دولة حقوق إنسان بمعنى الكلمة، وهذا ما يعجبنى فيها ولكن سأقول لكى مثلا مصريا معناه إذا كنت غير مخلص لأهلك فأنت غير مخلص لأى شخص، سأكون مخلصة لوطنى الثانى فرنسا لأننى مخلصة لوطنى الأول مصر لو قلت أحب فرنسا أكثر سأكون كاذبة والفرنسيون شعب متحضر يقدر الصراحة المنطقية ويكره الكذب، فابتسمت وقالت ولو قلت غير هذا لما صدقتك..
لكِ كل الاحترام وأثق في أنك ستكونين مواطنة فرنسية صالحة، وبعد أربعة أشهر أخرى جاء الرد بالموافقة..
الأختام تجرى أمام عيونى على جواز السفر الأحمر، هذا ختم غربتى، وهذا ختم طموح لم أحققه، وهذا ختم ذكريات لم أنسها..
أحلامنا لا نحققها بلا ثمن، وقد سددت فاتورة هذا الجواز الأوروبي عن آخرها..