رئيس التحرير
عصام كامل

قبلاتى على يد جدتى الراحلة


قبلاتى على يد جدتى الراحلة.. فى عيد الأم، ذكرى تعود إلى ذاكرتى من بعيد، منذ ثلاثين عاما.. تبدو حزينة فى عيون المدرسين والمدرسات، فى المرحلة الابتدائية، على طفلة صغيرة متفوقة، فقدت أمها الطبيبة، وهاجر والدها لأمريكا منذ أن كان عمرها عامين، وحيدة بلا أخ أو أخت، بين جدين توليا رعايتها بمتابعة مستمرة من الأهل والأقارب..


أتذكر الكثير من المواقف التى بقيت راسخة فى الذاكرة، بعد كل هذه السنوات، ذلك الخوف المبالغ فيه الذى كانت تخافه الجدة على الحفيدة الصغيرة الوحيدة.. خوف نتفهمه بسبب المسئولية التى أُلقيت على عاتقها، وهى فى سن متقدمة يزيد منها ويعقد الأمور شقاوة، الطفلة الدائبة الحركة والعنيدة بشكل واضح.

أشياء كثيرة لا نفهمها صغارا، ونتمنى بعد أن نكبر لو كان باستطاعتنا أن نعود بالزمن إلى الوراء لنقبل أيدى أمهاتنا.

أخطاء كثيرة نقع فيها بحكم صغر السن وقلة الخبرة، ولا ندرك كم أتعبنا أمهاتنا معنا دون أن ندرى أو نقدر صبر الأم وحبها.

ويسعدنى فى عيد الأم ذلك اليوم الذى طالما حمل دموع مدرساتى، وهن يقبلننى وأنا أهديهم هدية عيد الأم أن أتذكر أننى لم أحرم من حنان الأم كما يتصور البعض، فالله سبحانه وتعالى قبل أن ينزل قدره على عبده يهيئ له الظروف لتحمل هذا القدر، وقد كان قدره سبحانه أن أحرم من الأم، التى تركت ميراثا من المحبة والاحترام فى قلوب كل أهل القرية الصغيرة، قبل رحيلها لعملها ثلاث سنوات فى المستشفى الصغير بها، لتنوب الجدة عنها فى حياة الابنة الصغيرة بعد هجرة الأب..

سهر الأم الشابة إلى جوار طفلها المريض نقدره، ووضع الله الجنة تحت أقدامها، فما بالنا بسهر الجدة العجوز وحرصها وخوفها وخروجها صباحا مصطحبة الطفلة الصغيرة لتودعها أوتوبيس رحلة المدرسة لزيارة معالم القاهرة، وهى توصى المشرفين وتعيد وتزيد فى الوصية خوفا عليها فى مدينة كبيرة كالعاصمة.

صوتها الذى ما زال يتردد فى أحلامى إلى الآن، حين كانت تصلى الفجر كل يوم وتدعو بكلمات لا تتغير حتى أصبحت أحفظها عن ظهر قلب.. بدعوات لم أفهم معناها إلا حين كبرت.. "يا رب حرمتها من حنان الأم والأب لا تحرمها من حنانك"، ذلك النداء الملىء بالخشوع والأمل فى الله وحده قبل البشر فى رعاية هذه الطفلة...

التى تحولت إلى صبية ثم شابة ثم آن أوان زواجها وسفرها إلى الخارج.. وكانت لحظة الوداع، وما أصعبها وكانت أغرب كلمات تغزو كل القلوب وتؤلمها حين قال خالها لها على باب مطار القاهرة.. جدتك سترحل قريبا عن الحياة قد انتهى دورها وأدت رسالتها.

ولكل أجل كتاب.. ورحلت بعد شهور من هذا الوداع، بعد أن أودعت الأمانة فى إيد أمينة.. كل إجازة إلى مصر لابد أن أزور القبور وأذكرها وأذهب بأولادى كى تراهم يخيل إلى أنها تشعر بنا أمامها.. ربما لم أحقق أنا كل أحلامى، لكن دعواتها بقت لهذين الولدين المتفوقين فى دولة كفرنسا.. بارك الله فى كل أم لأولادها، ورحم الله كل أم قابلت خالقها، وقدرنا الله على أن نقوم بدورنا فى حياة أبنائنا.
الجريدة الرسمية