مصر داخل سيارة ترحيلات
ربما يمثل اختيار الفيلم المصري (اشتباك) للعرض بقسم "نظرة ما" داخل مهرجان كان السينمائي أكثر من مصادفة تقنية أتاحت لفيلم مصنوع بمستوى حرفي أن يشارك في هذا المهرجان بعد غياب مصري أكثر من 4 سنوات، ناهيك عن تدني مستوى السينما المصرية التي نشاهدها منذ فترة باستثناء تجارب قليلة محدودة ارتبطت بأسماء مخرجين مميزين، وإن ظل معظمها بعيدًا عن تناول مشكلات اجتماعية حقيقية في بلد قيل إنه خاض ثورتين، وكأن الثورات تقاس بالكيلو، لكن يبقى في النهاية أننا أمام مخاض يستحق اهتمامًا خاصًا من المبدعين والمثقفين، ولكن للأسف فإن حالة الاشتباك الاجتماعي والتربص وتقسيم الناس إلى خونة ومؤيدين، ظلت حائلاً دون نظرة موضوعية محايدة لهذه القضية ولو بالرصد المتامل لما يحدُث.
من هنا تأتي أهمية الفكرة ذاتها التي يطرحها فيلم (اشتباك) الذي شارك في كتابته وأخرجه محمد دياب، والتي تروي هذا الصراع الاجتماعي المرير الذي يصل لذروته هذه الأيام متوازيًا مع قضية جزيرتي وصنافير وتبادل الاتهامات بين المؤيدين والمعارضين ووصول الأمر للدعوة للمظاهرات.
فالفيلم باختصار يضع نماذج تمثل مصر بعد 2011 داخل سيارة ترحيلات جماعية تكون فرصة لكشف هذا الاشتباك المروع الذي تحول فيه مجتمع عرف عنه التوحد معظم التاريخ إلى كانتونات وشيع وأحزاب صغيرة متفرقة تتلاسن وتتقاطع في الشوارع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وعبر أجهزة الإعلام.
وتضم سيارة الترحيلات في الفيلم ممثلين عن التيارات السياسية المختلفة بدءًا من الليبرالي والعلماني والمتدين من إخوان وسلفيين، وصولاً لمواطنين عاديين لا تشغلهم السياسة، لتنشب بينهم الكثير من المشادات والمشاحنات بسبب تمسك كل فصيل برأيه، إلى أن يقع حادث للسيارة وتنحرف عن طريقها، فتتحد كل الفصائل مع بعضها في محاولة للنجاة من الموت المحقق.
وربما يكفي هذا الملخص لتوضيح الإسقاط الواضح على حالنا في مصر، ولكن تبقى طريقة المعالجة هي الفيصل في مدى تبني صناع العمل لوجهة نظر محددة تجاه كل فصيل من عدمه، بل إن معيار نجاح هذا الفيلم وموضوعيته يتحدد بهذا الانحياز من عدمه، لأنه بدون اتخاذ موقف لا ينحاز إلا لفكرة الوطن الذي يتعرض للوهن والضياع بسبب هذه الخلافات، يكون الفيلم قد سقط في فخ صناعة اشتباك وجدل جديدين بدلاً من التحذير منه، وهو ما سيتحدد بعد عرض الفيلم.
فما يعنينا هنا هو الفكرة التي تكشف عن نوايا طيبة، ولكنها بالقطع ليست كافية لصناعة فيلم جيد حتى لو عرض في مهرجان (كان السينمائي) الذي له بدوره اختياراته التي لا تخلو من دلالات سياسية وانحيازات مسبقة، وهو ما يؤكده مشاركة 3 أفلام إسرائيلية أمام الفيلم المصري في القسم نفسه.
مرة أخرى وقبل أن نعود لمناقشة الفيلم بعد عرضه لا بد من الإشادة بفكرته والتي تقول ببساطة شديدة إن مصر مسجونة حاليًا في سيارة ترحيلات تشبه سيارة رائعة الراحل سعد الدين وهبة (سكة السلامة) التي ضلت الطريق في صحراء التيه، وكاد الجميع يلقى حتفه بسبب الأنانية والخلاف، فنحن إزاء لحظة فاصلة في مصير الوطن لا تحتمل التفتت والتشكيك والاشتباك، وليس أمامنا إلا اتحاد كل الفصائل للنجاة من الفناء المحقق لو استمر الحال على هذا النحو المرعب.
وقد سبق وتم تقديم أكثر من فيلم في محاولة لاستثمار ما حدث في مصر بعد 2011 مثل (حظ سعيد) الذي يجد فيه بطلنا نفسه مشتتًا بين التيارات المختلفة في الميدان، ومؤخرًا كان فيلم (نوارة) وهو أيضًا فيلم مهم عن ضحايا ما حدث من البسطاء وبقاء الحال على ما هو عليه، لكن يظل لفيلم اشتباك فضول خاص نتمنى أن ينجح خلاله من تجاوز الانحياز الخاص للانحياز العام ليكون بالفعل جديرًا بالاهتمام.