السلطة والجامعة (2)
كان اللورد كرومر هو ممثل بريطانيا في صندوق الدين الذي أنشئ للسيطرة على الاقتصاد المصري بحجة الديون منذ عام 1878، وشارك في مؤامرة خلع الخديو إسماعيل من العرش لخطورته، وإصراره على إحياء الإمبراطورية المصرية ونشر التعليم وتحديث الجيش وتطوير القاهرة..
وبعد افتتاح قناة السويس ازدادت الحاجة إلى السيطرة على مصر ووجود ملك ضعيف يقبل أن يكون ظلا للغرب على عرش مصر، وكان توفيق هو الشخص المناسب، وكان كرومر عنصريًا يؤمن بسيادة الأنجلوساكسونيين على باقى البشر، واكتسب خبرات واسعة في إدارة المستعمرات من خدمته في الهند، وبعد الاحتلال البريطانى تم تعيينه مندوبًا ساميًا فبدأ على الفور في الإعداد للسيطرة على البلاد بضمان خضوع أهلها للاحتلال، فعمد إلى تقليص الإنفاق على التعليم إلى 1% من الموازنة، وتدريجيًا كان يتم توجيه غالبية الميزانية إلى مدارس الأجانب، والمدارس التي تدرس باللغة الإنجليزية حتى صار نصيب المدارس الأميرية أقل من 10% من الموازنة، وتم فرض 15 جنيهًا مصريًا كمصروفات على كل طالب في المرحلة الثانوية، مما جعل الفقر سببًا في الحرمان من التعليم..
وهكذا وصلت نسبة الأمية إلى ما يقارب 95% وأغلقت بعض المدارس العالية التي أنشأها الخديو إسماعيل وكان خلفه توفيق دميه في يد كرومر، مما ساعد الأخير على المزيد من سياسة تجهيل الشعب، فبدأ تشجيع استجلاب المزيد من الإرساليات التبشيرية ليس لغرض دينى وإنما للتشكيك في دين المصريين وفى لغتهم وهما جزء أصيل من الهوية المصرية.
كان يأمر بعدم التقيد بالعربية الفصحى، ويشجع استخدام اللغة العامية في المكاتبات، وأصدر قرارًا في 1898 باستخدام اللغة الإنجليزية بدلا من العربية في المدارس العالية، كما أصدر قرارًا بعدم قبول طلبة في المدارس الثانوية إلا بقدر احتياج دواوين الحكومة.
ولم يكن ينغص على كرومر حياته إلا وجود الشيخ محمد عبده الذي اجتمع حوله شباب الأزهر، وهو يدعو إلى العلم والفكر وحرية التعبير، وتتلمذ على يديه معظم من حملوا لواء التغيير في أوائل القرن العشرين، وعلى رأسهم قاسم أمين وسعد زغلول وغيرهم كثير.
ولم تبدأ مقاومة سياسة التجهيل التي اتبعها كرومر إلا بعد تولى الخديو عباس حلمى عام 1892، والتي حاول بتشجيع من السلطان العثمانى تحدى الإنجليز، وأصدر قرارًا بتعميم التعليم الابتدائى، وأمر بزيادة مخصصات التعليم حتى وصلت إلى 3.4% من الموازنة، مع تخصيص منح للمجتهدين من غير القادرين للتعليم الثانوى والعالى.
وكان أثر افتتاح الجامعة السورية الأمريكية أو البروتستانتية عام 1866 (اصبحت فيما بعد تسمى الجامعة الأمريكية في بيروت) كبيرًا على المهاجرين من الشوام إلى مصر، والعائلات البروتستانتية المصرية، التي كانت ترسل أولادها ليتعلموا فيها، فأصبح هؤلاء يحلمون بوجود جامعة شبيهة في القاهرة، وكتب جورجى زيدان مؤسس جريدة الهلال سنة 1898 مقالا عن جامعة هندية أهلية انشئت سنة 1875، هي جامعة عليكرة واستطاعت إثبات ذاتها والاستمرار رغم كل محاولات الاحتلال البريطانى، فأثنى على فكرة الجامعة ودورها في نشر الثقافة والعلم، ثم كتب مقالا آخر في 1903 يقترح فتح فرع من الجامعة السورية الأمريكية في القاهرة التي تستحق أن تحتضن جامعة.. كانت تلك السنوات هي سنوات الثقافة الشعبية فالصحف التي ظهرت إلى النور في عصر إسماعيل بقى القليل منها..