رئيس التحرير
عصام كامل

أهم من الجسر !


قبل سنوات وأيام حكم مبارك بالتحديد كان يمكنك أن تنتقد مبارك شخصيًا، وتمضي الأمور دون أزمة، على أن الأزمة التي لا حل لها هو أن تقترب من الأسرة الحاكمة في السعودية.. اتفاق غير مكتوب غير أنه أكثر إلزامًا من الاتفاقيات بين الدول ألا تقترب صحيفة سعودية من الأسرة الحاكمة في مصر، وألا تقترب صحيفة مصرية من المملكة حكومة وشعبًا.. ظل هذا الالتزام ساريًا بين البلدين سنوات طويلة.


وجاء الربيع العربى بكل ما يحمل من إسقاط للنموذج.. نموذج دولة الأب ومعها كل قيم الأبوة أيضًا.. سقط مبارك ومعه سقطت العائلة، وبدأ الخلط بين الحرية والفوضى، ورغم وجود قوانين تمنع الإساءة إلى الدول فإن مناوشات حدثت هنا وهناك.. معها كان هناك وهنا غضب.. مضت سفينة العلاقات بين مصر والسعودية على نحو مغاير لما كانت عليه، وبدأت تتبلور مساحات أخرى من التلاقى.

لن أتحدث عن الجزر والجغرافيا والحدود؛ فذلك الأمر له خبراؤه وناسه، ولن أتحدث عن الجسر وإطلالاته الجديدة، ولكني أتحدث عما هو أبعد من فكرة الجسر، الجسر الواصل بين هنا وهناك، بين شعبين عربيين ينتميان إلى دولتين كبيرتين، الجسر الذي يغير المكان إنسانيًا لما هو أبعد من الجغرافيا.. جسر الحوار البناء، جسر المصالح المشتركة والمصير المشترك والمجهول المشترك.

زيارة الملك سلمان لم تعكرها مناوشات صحفية، بل إن أمر النقد أو تناول المملكة على صفحاتنا أو في برامجنا وفكرة تناول مصر صحفيًا هناك أصبحت واحدة من أدوات حوار، قد أرفضه أنا أو أنت، قد أراه تجاوزًا من هنا ومن هناك، غير أني أيضًا أراه ضرورة من ضرورات الاختلاف الإنسانية، التي لا نستطيع أن نمنعها بقانون أو مرسوم أو باتفاق "جدعنة" بين الزعماء.

الجسر الذي أراه اليوم أعمق أثرًا، هو تفهم العاصمتين أن المؤامرات لا حدود لها، خاصة أننا بعد صدام حسين ومع التمدد الإيراني المخيف، أصبحنا نردد "أكلنا يوم أكل الثور الأبيض"، انتهى عصر التضحية بالثيران البيضاء، انتهى عصر "وأنا مالى".. وتلاشت من القاموس المصري السعودي فكرة القطيعة أو العقاب أو التهميش، لم يعد من مصلحة الرياض أن تنكمش من القاهرة، ولم يعد من مصلحة القاهرة أن تهمش الرياض، إذًا نحن نكتسب أرضًا جديدة في حوار الجدية بعيدًا عن العواطف التي تتحرك وفق المزاج.

على هامش هذا التكوين الجديد وإعادة خلق نموذج جديد من العلاقات المصرية السعودية، أظن أن جسر سلمان لن يكون الأخير وسوف تشهد العاصمتان ميلاد جسور أكثر تأثيرًا فى حياة الشعبين، ومن ثم فى المنطقة بأسرها؛ فالتاريخ يثبت يومًا بعد يوم أن العلاقات الدولية القائمة على المصالح والتفاهم تستقر وتستمر بعيدًا عن النعرات القديمة، والحوار العربي العقيم قديمًا، عندما كان الحكام يتطاولون على بعضهم بعضا، ومِن ورائهم يقودون أكبر حملات للكراهية بين الشعوب.

ما عانيناه قديمًا لا أتصور أن له مكانًا الآن، وجسر الغد سيكون لحمة وتواصلا بين أجيال جديدة، تدرك حجم الخطر، وتدرك ما أكثر من العدو الخارجى، التهميش أو الإقصاء أو التضحية بالغيــر لن تكون هي مفردات التعامل بين مصر والسعودية.. هذا هو الجســر، وهذا هو المستقبل الذي تصنعه أجيال جديدة.
الجريدة الرسمية